آراء وتحليلاتالأخبار

وجوب الالتزام بقرار تعليق الجمعة لمصلحة الأمة / محمد يحيى ابن احريمو

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد فإن ولي أمر المسلمين إذا حكم بتعليق صلاة الجمعة لمصلحة وجبت طاعته وبطلت صلاة من خالفه؛ هذا مقتضى النصوص والقواعد، وهو محل اتفاق من بين المالكية قطعا؛ والظاهر أنه محل اتفاق بين المذاهب الأربعة كما سنبينه إن شاء الله.

أما مذهب مالك ففيه قولان أحدهما باشتراط إذن الإمام في الجمعة، وهو قول يحيى بن عمر، ونقله عن مالك وأصحابه والثاني أنه غير مشترط، وهو المشهور من المذهب؛ فأما على القول الأول فلا إشكال، وأما على القول الثاني وهو أن إذن الإمام ليس بشرط فقد ذكر  ابن أبي زيد في النوادر(1/ 452) عن أشهب في المجموعة – وهو من القائلين بعدم شتراط الإذن-  أن الإمام إن منعها لغير مضارة أو قصد فاسد لم تسغ مخالفته، وأنهم إن صلوها افتياتا لم تُجزِهم ووجبت إعادتها.

قال أشهب: إن عطلها الإمام أو سافر عنها أو أضر بهم فنهاهم أن يصلوها فإن أمنوا منه إذا أقاموها فليقيموها؛  وان كان على غير ذلك فصلى رجل الجمعة بغير أمر الإمام لم تُجزهم” انتهى ومعنى قوله “وإن كان على غير ذلك” إن كان نهيه عن إقامتها لمصلحة واجتهاد. هكذا فسره سندٌ في الطراز؛ وهو ظاهر.

ووجه سندٌ كلام أشهب هذا بأنه محل اجتهاد فإذا نهج فيه السلطان منهجا لم تجز مخالفته ووجب اتباعه كالحاكم إذا قضى بأمر فيه اختلاف بين العلماء فإن حكمه ماض غير مردود؛ ولأن الخروج عن حكم السلطان سبب للفتنة والهرج، وذلك لا يحل فعله، وما لا يحل فعله لا يجزئ عن الواجب انتهى (مواهب الجليل للحطاب  2/ 174)

وقد نقل البناني نحو ما ذكرنا عن ابن غازي والمسناوي وبين أن قول خليل “ووجبت إن منع وأمنوا” محله حيث لم يكن المنع اجتهادا، وتردد البناني في حمل كلام سندٍ على هذه الصورة، وكأنه لم يقف على كلام النوادر ومن وقف عليه ظهر له ذلك بوضوح وبالله التوفيق. فالحاصل أن مقتضى كلام ابن أبي زيد وابن غازي والمسناوي أن هذا الأمر محل اتفاق.

 

وأما المذاهب الأخرى فإن أبا حنيفة يشترط إذن السلطان، وهو رواية عن أحمد وقول للمالكية كما أسلفنا وعليه فالأمر واضح؛ وأما الشافعي فلا يرى اشتراط إذن السلطان؛ لكن في كلام أصحابه ماهو صريح في أن الامام إن منع الجمعة اجتهادا وجبت طاعته؛ قال الشيخ أبو بكر عثمان بن محمد الدمياطي الشافعي في إعانة الطالبين: “الا يشترط إذن الإمام أو نائبه، وعن الشافعي والأصحاب أنه يندب استئذانه خوف الفتنة، وخروجا من الخلاف، وأما تعددها فلا بد من الإذن لأنه محل اجتهاد انتهى (إعانة الطالبين 2/ 70)

وهو صريح في أن إقامة الجمعة حيث كانت محل اجتهاد كما في هذه النازلة وجب العمل بحكم الحاكم فيها.

وغير خاف على من رزق حظا من العلم أن منع الاجتماع للجمعة خشية انتشار الأمراض المعدية عملا بالظن الغالب: من قبيل حفظ الأنفس المعصومة، وذلك من المقاصد الكلية الضرورية التي اتفقت الشرائع على مراعتها كما قال سيدي عبد الله في مراقي السعود:

دين ونفس ثم عقل نسب

مال إلى ضرورة تنتسب

فحفظها حتم على الإنسان

في كل شرعة من الأديان

قال الإمام ابن عاشور في مقاصد الشريعة: “أما حفظ الأنفس فمعناه صيانتها من التلف، أفرادا وجماعات؛ والقصاص هو أضعف أنواع حفظ النفوس؛ لأن الأهم من ذلك حفظها من التلف قبل الوقوع، كمقاومة الأمراض السارية، ومنع الناس من أن تدركهم العدوى بدخول بلد قد انتشرت فيه الأوبئة. انتهى كلام ابن عاشور وهو كلام نفيس يحز في مفصل النازلة؛ غير أن في تهوينه من القصاص نظرا فهو مشروع للعقوبة ولمقاومة وقوع الجرائم مستقبلا كما قال تعلى: (ولكم في القصاص حياة) وكلامه في التفسير يقتضي ذلك.

ومن المقرر في علم المقاصد أن كلي حفظ الأنفس مقدم على جزئي الدين والجمعة من هذا القبيل.

قد يظن بعض الطيبين أن عدم تعطيل الجمع بسبب الأوبئة في العصور  الخالية حجة على من أفتى بتعطيلها اليوم؛ ويغيب عن هؤلاء الفرق الواضح بين هذا الوباء وبين الأوبئة التي يقيسون عليها؛ إذ من المعلوم أن خطر هذا الوباء يكمن في كون أعراضه لا تظهر على حامله إلا بعد أسبوع أو أكثر؛ بخلاف الطاعون الذي تظهر أعراضه بسرعة، ويقعد صاحبه فلا يسطيع دخول المسجد. وهو نوعان منه ما ينتقل عن طريق مس البلغم أو الرذاذ المتطاير من المريض، وتظهر أعراضه خلال ساعات وهو الطاعون الرئوي؛ ومنه ما ينتقل عن طريق البعوض ولا تاثير للإنسان في نقله. والطاعون من أعظم الأوبئة أو هو أعظمها كما نعلم.

ثم إن هؤلاء يغفلون عن وجوب توظيف ما من الله به اليوم على البشرية من العلوم الدنيوية النافعة، المعينة على الوقاية وأخذ الحذر، والتمييز بين أنواع الأمراض وطرق انتقال العدوى؛ مما لم يكن متاحا للأقدمين؛ والشارع الكريم صلوات الله عليه  قد نبه على بعض طرق مكافحة العدوى وشرع الحجر الصحي الذي هو ملاذ البشرية اليوم  بالنهي عن الفرار من الوباء ودخول مواطنه، ودلنا على بعض الأدوية، وقال صلى الله عليه وسلم  “ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء؛ غير أنه قد قال صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم” وهي قاعدة كلية تدور حولها كل بحوث الطب قديما وحديثا. ومن ظن أن الإسلام يمنع مجاراة التطور العلمي والاستفادة من علوم العصر فليس أهلا للفتوى بل هو مناط الثريا منها.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يورد مُمْرض على مصح؛ وأمر بالفرار من المجذوم؛ فبين بذلك ضرر العدوى، وفهم العلماء منه أن قوله صلى الله عليه وسلم “لا عدوى ولا طيرة” المراد منه نفي تأثير العدوى بذاتها كما يعتقد أهل الجاهلية، وأما حصول المرض عندها بتقدير الله فهو ثابت قطعا، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن ومن قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مومن بالكواكب” فحديث نفي العدوى خارج مخرج مخالفة ما عند أهل الجاهلية من نسبة المسببات إلى أسبابها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “من أعدى الأول” فأثبت العدوى بتقدير الله وفعله. وليس بين تلك الأحاديث تعارض إن فهمت في سياقها، ولا هي مما يقبل النسخ إذ لا نسخ في الأخبار كما تقرر في علم الأصول والعلم عند الله سبحانه.

وقد راعى الفقهاء قضية العدوى  بالجملة حسب الممكن في عصرهم، فنصوا على منع صاحب الجذام والبرص من دخول المسجد خوف العدوى والتأذي به؛ وثبت نحو ذلك عن عمر رضي الله عنه.

كما أفتى بعضهم بعزل المرضى إذا كثروا وفرض الحجر الصحي عليهم، خاصة إن تكفلت الدولة بعلاجهم والإنفاق عليهم – وذلك من واجباتها- قال ابن حبيب: والحكم بتنحيتهم (جبرهم على الحجز الصحي) أعجب إلي وهو الذي عليه عمل الناس، (شرح ابن بطال على البخاري9/ 412) وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا يورد مصح على ممرض” ويحدثنا الطالب  أحمد بن اطوير الجنة وغيره من أصحاب الرحلات عن  المدد   التي قضوها تحت الحجر الصحي، في القاهرة وجدة وغيرها من الحواضر الإسلامية بعد قدومهم من أماكن موبوءة.

ولا يظن ظان أن صلاة الجمعة من العبادات التي لا يتعلق بها حكم الحاكم  ونظره؛ فقد بين إمام الحرمين في الغياثي أن ما كان من العبادات شعارا ظاهرا في الإسلام تعلق به نظر الحاكم، قال: “وذلك ينقسم إلى ما يرتبط باجتماع عدد كبير، وجم غفير كالجمع، والأعياد ومجامع الحجيج، وما لا يتعلق باجتماع كالأذان، وعقد الجماعات فيما عدا الجمعة من الصلوات. فأما ما يتعلق بشهود جمع كبير؛ فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه، فإن الناس إذا كثروا عظم الزحام، وجمع المجمع أخيافا، وألف أصنافا؛ خيف في مزدحم القوم أمور محذورة. فإذا كان منهم ذو نجدة وبأس يكف عادية إن هم بها معتدون؛ كان الجمع محروسا ودرأت هيبة الوالي ظنونا وحدوسا” (الغياثي 199) هذا كلام إمام الحرمين وهو صريح في مسألتنا. وهذا من قبيل الاجتهاد في تحقيق المناط الذي لا ينقطع إلى قيام الساعة لتوقف التكليف عليه.

وقد ذكر العلماء الأعذار الموجبة للتخلف عن الجمعة كالمطر والطين ولا شك أن الضرر المتوقع منها دون الضرر المتوقع في نازلتنا بكثير.

كما أشاروا إلى أن تلك الأعذار لا تنحصر بل تدور مع المشقة، وخوف الضرر قال المازري في شرح التلقين:”ويستعمل في جميع ذلك، عند فقد الآثار والظواهر، الموازنة بين تأكد وجوب الجمعة ومقدار ما ينال من الضرر لحضورها على حسب ما تقدم؛ فمن أحاط بهذا علما رد إليه أكثر الخلاف في فروع هذا الباب”

ومعلوم  أن من شروط الجمعة الأمن، وأنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة قال الفيشي في حاشيته على المختصر عند قوله: “تتقرى بهم قرية” ما نصه: “أي تنتظم بهم مصالحها، بحيث يأمنون على أنفسهم وأموالهم و أولادهم والجماعة الذين تتقرى بهم لا يتقصون عن اثني عشر؛ فقوله بلا حد: “أي فيما زاد على الاثني عشر كثلاثين وأربعين، لأن هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأمن والخوف” انتهى نقله العلامة محمد بن أحمد الصغير التشيتي في رسالته في الجمعة ونحوه لغير واحد من شراح المختصر لكن اخترت كلامه لوضوحه. ولا فرق بين خوف انتشار المرض قطعا أو ظنا،وخوف هجوم العدو إذ الكل راجع  إلى حفظ الأنفس، كما تقدم في كلام ابن عاشور.

ولهذا المعنى لم يُصل النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة بمكة لعدم الأمن وصلاها الأنصار بالمدينة  وقد ألغز بذلك أفلواط بن محمدُّ الجكني فقال:

أسائل أهل العلم أي فريضة

تأخر عن إيجابها فعلُها النبي

ومن قبل صلاها من الصحب عصبة

ولم يك إذ ذاك النبي بيثرب

وبما ذكرناه يعلم أن قرار  الدولة بتعليق الجمعة في هذا الظرف واقع موقعه، وأنه رافع للخلاف؛ كما هو شأن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية؛ فإنه يرفع الخلاف؛ تحرزا من الهرج والفتن. وتجب طاعته فيه؛ وذلك من الطاعة في المعروف قال تعلى: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا  الله ورسوله وأولي الأمر منكم) وقال سبحانه: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أخبره أنه يحكم باجتهاده فيما لا نص فيه: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله” وأمر صلى الله عليه وسلم أهل اليمن بطاعته. فعلمنا ان طاعته في الاجتهاد واجبة.

ولا يكاد العلماء يختلفون في تلك القاعدة. والله الموفق.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى