آراء وتحليلاتالأخبار

نوفمبر.. الفارغ! / محفوظ ولد أحمد

 

 

لا ننقم من العسكر الموريتاني إطاحتهم بالرئيس المختار ولد داداه؛ فقد أرهقهم استمراره في حرب لم يستعد لها ولم يتوقع مستوى غدرها وحقدها، وأحسنوا صنعا بوفقها، رغم الثمن السياسي والأخلاقي الباهظ لذلك الانسحاب.

 

 

كان استمرار نظام ولد داداه في تلك الحرب المرهقة ينحصر في أحد سببين اثنين: إما أنه يعول على طول النفس والتحمل لكسبها في النهاية بطريقة ما (كما حصل لشريكه وحليفه المغربي، حتى الآن)، وإما أنه يكابر ويرفض التراجع والقهر لأسباب أخلاقية، ويصر على الوفاء لقناعاته التي ظل يعلنها منذ 1957 بأن الصحراء جزء من الوطن الغالي لا يمكن التفريط فيه تحت أي ضغط، وكذلك الوفاء بالتزاماته ومواقفه الإقليمية والدولية، بأي ثمن…؟

 

 

ورغم أنه لم تكن هناك هزيمة عسكرية لموريتانيا، وظل الجيش الوطني يحمي بنجاح كامل التراب الوطني بما فيه المناطق الصحراوية (تيرس الغربية) ويرد ببطولة كل الهجمات والاختراقات التي تشنها قوات “بوليساريو”، والتي أدى تدخل الطيران الحربي الفرنسي إلى الحد منها أو حتى وقفها في معظم المحاور… رغم ذلك فقد كان تأثير الحرب النفسي والسياسي، وتكاليفها المادية على اقتصاد ناشئ ضعيف، قويا وصارخا، ويبرر تغيير النظام بتلك الطريقة الناعمة التي حدثت فجر العاشر يوليو 1978م.

 

 

أما ما يُنقم ويدعو للأسى والحزن والغضب… فهو أن أيا من المبادئ التي أعلن عنها الانقلابيون يومئذ، لم يتحقق منها غير الخروج من الحرب؛ خروجَ المختل الفرح بهزيمته! حيث كان خروجا يعمه الغموض والفوضى، وبالطبع لا شكور له ولا شروط ولا ترتيبات جادة ومسؤولة!

 

 

وهكذا بدلا من إسقاط “نظام الرشوة والخيانة المعادي للمصلحة الوطنية” و”استرجاع السلطة من أولئك الذين انتزعوها من الشعب بالغش والخيانة” (على حد تعبير البيان رقم1) وتسليمها إلى المؤهلين الشرعيين لها بواسطة مؤسسات ديمقراطية، انغمس الانقلابيون في السلطة واستسلموا ـ وهم شجعان القتال ـ لمنافعها ومباهجها، “ما في أعينهم بلل!”؛ فأوقعوا البلاد والدولة في دوامة من صراع على السلطة، يتوج بانقلاب عسكري جديد، أبيض أو أحمر…

 

 

وسخر كل نظام انقلابي وسائل الدولة ومصالحها العامة لأغراضه الخاصة ومحيطه الضيق!

 

 

وكانت النخب المدنية التي تمسك بمفاصل الدولة، أسوأ بكثير من العسكريين؛ فبدلا من مطالبتهم بالوفاء بوعودهم والعودة إلى ثكناتهم والابتعاد عن الحكم، أصبحت تلك “النخب” أدواتهم القذرة، التي تزين لكل منقلب أهواءه وأوهامه وتفتل له في الذروة والغارب حتى يستفرد بالسلطة، لينقلب عليه رفاقه. ثم تطفق تلعق الحذاء الجديد… وهكذا إلى يوم الناس هذا تقريبا!

 

 

والواقع أن الجيش الموريتاني لم يطح بالنظام الداداهي ولم يخرج من الحرب فحسب، وإنما أطاح بروح الجمهورية وخرج من نفسه بنفسه! حيث تنكر قادته المهووسون بالسلطة والنفوذ والثراء… لزملائهم وجنودهم الذين ماتوا في ساحة الوغى يدافعون ببسالة عن الوطن وعن سيادة الدولة وحوزتها الترابية.

 

 

أجل، فرغم اعتراف الجميع بتلك البطولات والتضحيات الجسيمة، التي تلاحمت فيها أجساد جميع مكونات الشعب الموريتاني، بدون استثناء، وامتزجت دماؤهم الزكية المهراقة تحت عَلم دولتهم الناشئة، فقد نُسِيَ هؤلاء بسرعة ومُحيت ذكراهم وازدُريت أراملهم وأسرُهم المكلومة. مما أصاب الروح الوطنية ـ العسكرية والمدنية ـ بالانكسار والإحباط.

 

 

وإنه لأمر محزن ومخز حقا أن يكون شهداء الجيش الموريتاني وأبناؤه الذين قدموا أرواحهم باسم الوطن والشرف العسكري… بهذه التفاهة والازدراء أو النسيان على الأقل، تحت حكم قادة الجيش نفسه، وعلى مدى عدة عقود متواصلة.

 

 

فلا ذكر لأسمائهم، وربما لا إحصاء لعددهم، ولا تحديدا ولا تنويها بمضاجعهم! وأما التكريم والاتصال وتخليد الذكرى والتعويض… فعلى ذلك كله السلام!!

 

***

 

واليوم في ظل نظام عسكري الأصل والمنشأ، تطل علينا الذكرى الــ60 لإنشاء الدولة الموريتانية، وهي تتعثر في ثياب رثة وحالة من الهزال والضعف والفاقة والحيرة… بسبب استشراء الفساد والغبن وسوء الحكامة، واستفحال القبلية والمحسوبية، والاستهانة لحد العبث برموز الدولة وهيبتها…

 

 

وإذا كانت دولتنا متخلفة، جراء تلك الآفات والأمراض والأعراض، فإنه لا عذر لها في عدم بعث الروح الوطنية وبثها وتوزيع العدالة، وعزل وعقاب المفسدين، وفضح ونبذ “اللا وطنيين” (حتى لا نقول: الخونة) الذين مردوا على: “خذ خيرها ولا تجعلها وطنا”!

 

 

ويتطلب بعث الروح الوطنية وإحياء “نوفمبر” قبل كل شيء إعادة الاعتبار والتقدير المستحق، لمن أبلوا بلاء حسنا مشهودا في تكوين وتأسيس الدولة من فراغ العدم، والاعتراف برمزيتهم، وتكريم ذكرى وأسر الضباط والجنود الذين ضحوا بحياتهم دفاعا عن هذه الدولة ووحدتها وسيادتها… من القوات المسلحة وقوات الأمن ورجال الإدارة الإقليمية…

 

 

بدون ذلك لا معنى ولا فحوى لأغاني وصور وخطب نوفمبر، التي تتكلفها وسائل الإعلام كل سنة، بدون دلالة ولا جدية ولا هدف…!

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

حاشية: كان الانخراط في الجيش الموريتاني يقوم على التطوع، حيث كان راتب الجندي البسيط حتى سنة 1974 حوالي 200 (مائتين) أوقية!

 

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى