من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (أم الروايات) (10) د. محمدو احظانا
(أم الروايات) (10)
الصياد الذي يسابق الغزلان. والدليل
“قال لكم ما قال لكم ومولانا هو الذي بان لنا وبان لكم وبان لأولاد المسلمين”:
إن رجلا من كبار أهل شنقيط خرج إلى تكانت لجلب الذرة على جمال له، ولأنه لايعرف طريقه من شنقيط إلى حقول “كبو” في تكانت، فقد كارى دليلا خريتا، معروفا باهتدائه في الأرض. كان رجلا قصير القامة إن وقف مع الرجال، حائل السحنة، حاد النظرة، لاترمش عيناه إذا تكلم، ملامحه محفورة بعناية في وجهه، وعضلات ساعديه نافرة، تتبرأ كل واحدة منهن من أختها. شعر رأسه فاحم السواد، طويل منفوش كأنه مقشعر قشعريرة أبدية، يلبس دراعة قصيرة لايميز باصر لونها الأصلي. لو كان عقابا، يجمع لفقيها بحزام عريض من جلد المهى حول خصره، ولديه نعلان لايخلعهما أبدا كحزامه، وهما من جلد الثور الوحشي. ولديه سكين ومسواك سرح حشرهما في الغلاف المعلق في عنقه ببريمة ناعمة من جلد الضأن؛ يتحرك الرجل الموجز في كل شيء بخفة كأنه لايزن ريشة عصفور. كان نادر الكلام. وإن تكلم لضرورة جمع كثيرا من المعاني في ألفاظ قليلة، كأنه يخاف أن ينفد كلامه أو ينضب. يوحي سلوكه المختصر بالثقة للآخرين. يبتسم ولا يضحك ضحكا عاليا. لديه عصا أبنوس براقة في حمرة يبقعها سواد، يذود بها المسافات من أمامه إن سار.
كان الرجل الشنقيطي الكبير يتبع الدليل حذو النعل للنعل ليجنبه رؤوس ومنحدرات أهلة أحقاف “وران” المتراكمة على وجوهها تراكما صامتا، مبهم الأسباب.
لقد أعجب الشنقيطي بالدليل عندما عرض عليه أن يردفه أو يركب أحد الجمال الأخرى، فقال له: لا أركب أبدا حتى لا أدلل نفسي، أو أنام نوما متقطعا.
****
لما زالت الشمس عن كبد السماء نزل الرجلان تحت شجرة خلصتها نفاضة الشتاء من أغلب أوراقها، ثوت على غارب ربوة رملية صغيرة نمنمت العواصف أديمها الناعم بخطوط متناغمة..
كانت قربهما قرارة بها قطيع غزلان راتع. لم يهتما به لأنه لا سلاح لديهما فأعدا تمرا وثريدا وطحين شطائر من لحم مجفف، ودهنا عتيقا تشق رائحته رؤوس الجياع المتعبين.
رأيا رجلا طويل القامة، يتدلى من التلال المقابلة، يلبس ثوبا نظيفا، وقد وضع عمامته السوداء من النيلة على كتفه الأيمن.
ظنا أنه يقصدهما لكنه اقترب من قطيع الغزلان وركض إليه حتى توغل فيه، وصار يمسك ظهر الغزال بإحدى يديه، ويختبر شحمه ويفلته، ويده الأخرى فوق عمامته حتى لا تسقط؛ حتى اطمأن لشحم أحدها، فأمسك به، وحمله إلى مكان قريب من الرفقة وذبحه. ثم شق بسكين صغير فتحة في جلد فخذه ونفخ فيها نفخات متتالية فانتفخ جلد الغزال مسلوخا.
قال الدليل وهو يبتسم:
– هذا سلخ الجن لتيسهم!!
فقال له الرجل الكبير:
– يبدو ذلك.
قرب الرجل على عجل بعض الإذخر ونفشه ليقي لحم الغزال من الحصا، وجلب أعوادا حطب جافة من شجرة طلح يابسة قريبة، وحفر حفرة في الأرض وكسر الأعواد فيها، وأوقد النار بزنادي حطب دون أن يسأل جيرانه الذين أوقدوا نار غدائهم قبسا.. وعاد إلى الغزال وشق بطنه وأفرغ أحشاءه وأعدها للشي، ثم فتح جرم طريدته بكسر منابت أضلاعها في الكاهل والظهر، وكفأها في النار بعد أن أزاح الجمر عن الملة، ووارى الغزال بالبقية الباقية منها. وأعاد الجمر وبقية الحطب ولجأ إلى شجيرة كاذبة الظل، وتمدد تحتها، واضعا طرف ردائه على وجهه منتظرا أن ينضج اللحم.
****
التفت الدليل إلى رفيقه قائلا:
– سأطلب من هذا الرجل لحما من غزاله فأجابه الكبير:
– من قال لك إنه إنسي؟ إذا كنت لا تفقه لغة الجن فأنصحك بتركه.
– ولو كان جنيا سأطلبه.
تقدم الدليل خطوات مترددة نحو الرجل وقال له:
– السلام عليك إن كنت مسلما من الإنس أو الجن.
فأجابه الصياد:
– وعليك السلام.
– أريد أن تعطيني عضوا أو اثنين من غزالك هذا فأنا قرم للحم ولدي رفيق كبار.
– خذ معدة الغزال.
– معدة الغزال سهم المحتقر.
– أمامك قطيع الغزلان يسرح ويمرح في القرارة. خذ منه ما تشاء.
– لم أستشرك وإنما طلبت منك.
وعاد الرجل خائبا إلى رفيقه وحدثه حديثا خافتا:
– أنا سأخطف لحم غزال هذا البخيل.
فخاطبه الرجل الكبير:
– أأنت مخبول؟ تريد أن تخطف لحم غزال من يتخير في الغزلان وهم أحرار يركضون ولا يسقط رداؤه؟
– اسمع مني ما سأقول لك: سر في هذا الاتجاه سيرك المعتاد، فإذا انطفأت عين الشمس في البحر الأخضر فحط رحلك ومتاعك على تلة مشرفة على واديين يكثر فيهما شجر السمر والإهليلج. وسآتيك إذا أوقدت النار للعشاء.
ضرب الرجل الكبير كفا بكف وهو يبسمل:
-علك من مؤمني الجن لاتضرك البسملة، وهو كذلك.
خطا الدليل خطوات خفبفة نحو حفرة النار. فخاطبه الصياد:
– رضيت بمعدة الغزال؟ إنها مدفونة في الجانب الشرقي من الحفرة.
أفرد الدليل سكينه من غمدها وغرزها في ظهر الغزال ونفض اللحم قليلا وانطلق جنوبا كذكر نعام مضمر.
انتفض الصياد في أثره لما رأى سرعته الفائقة وذاب الإثنان بين السماء والأرض في أقل مما يبتلع فيه كلب خراجا.
****
أكل الرجل الكبير طعامه وهو يقرأ القرآن ليدرأ به الحيرة والمس مما شاهد، مكذبا نفسه عما رأى.
وشد رحله وظروفه على جمله، وقطر بقية الجمال، واتجه إلى حيث أشار دليله المحير.
عندما غربت الشمس نزل على الكبير على ربوة الواديين حتي وصف دليله.
أخذ يوقد النار في حطب جمعه، وصلى المغرب بعد أن أذن لرفع البلاء وطرد الجن والمكاره.
****
بعد هنيهة أقبل الصياد مسلما على الرجل الشنقيطي:
– عليك السلام.
– أين صاحبك؟
– ليس صاحبي، بل صاحبك، سواء كنتما من الإنس أم من الجن. ألم تدركه؟
– وهل أستطيع إدراكه. إنه كالفرس العتيقة من نسل الجريبات، تزيد في جريها كلما طال بها الشأو.
لم أبلغ تلة إلا كان على التلة الأخرى، ومنذ الظهر وهو يدور بي حول هذين الواديين حتى حال بيننا الظلام. وكلما تراخيت في الركض خلفه وقف يأكل لحم الغزال ويتحداني، حتى إذا اقتربت منه ترك الأرض حمراء بلقعا.
وإذا صدقت فراستي فإن رفيقك هذا لم يبت ليلة بدون غطاء دون السماء، ولم يشرب الماء الصراح، ولم يطأ الأرض بباطن قدمه مباشرة.
****
بعد هنيهة أقبل الدليل وهو يحل بقية أشلاء الغزال، ودفعه للصياد، فطلب الصياد من الشنقيطي أن يشاركه بعد أن تعرف عليه.
فأجابه:
– أنا لا أأكل المغصوب.
التفت الصياد إلى الدليل وقال له:
كل معي بقية المصيبة منك. فجلس قبالته وأخذا يتشاركان العشاء ويتحدثان.
قال الصياد للدليل:
– علك لا تعرف لم أطاردك طوال اليوم؟
– قد يكون لبخلك.
– بل لأسألك سؤالا واحدا وهو:
– ما دمت أسرع من فهد، وأصبر على الركض من جريبة عتيقة، فلم لا تترك عنك غزالي وتأخذ غزالا ترضاه من القطيع السارح في القرارة.
– لا لشيء إلا لبخلك، وسوء ضيافتك.
فضحك الرجل وودع الرفيقين بأريحية، عائدا إلى أهله بعدما تعشى ببقية غزاله.
****
“وربطت أنا نعلي إلى قدمي، ورجعت عنهم سالما، أبقاني الله أحدث بحكايتهم دائرا عن دائر.”
م. أحظانا