ثقافة

مجلس عيادة وأدب/ الأستاذ: يعقوب بن اليدالي

زرت البارحة أيقونة الفن الموريتاني البلبل الشادي ذو الصوت الشجي السيد محمد بن أحمدو بن الميداح في بيته العامر، فوجدته مستلقيا على سرير وإلى يمينه كرسي يجلس عليه المحامي المفوه و الأديب المشهور صاحب الكاف المرفود الأستاذ عابدين بن التقي، فحييتهما بتحية الإسلام، فردا علي التحية بأحسن منها، فجلست معهما، واستفسرت الفنان محمد عن صحته بعد الوعكة التي ألمّت به مؤخرا، فحمد الله وأثنى عليه، وطمأنني أن صحته تحسنت لله الحمد، وأن ما كان ينقصه هو رؤيتي ودعواتي الصالحة له، شفاه الله وعافاه وأدام على آل محمد بن الميداح نعمه وآلاءه وحفظهم بما حفظ به الذكر الحكيم، ثم خاطب محمد الأستاذ عابدين قائلا هل تعرف أن علاقتي مع يعقوب مرظوعة من اسدايد الحمد لله، فقال له عابدين كيف ذلك؟ فقال محمد كانت جدتي مَمَّاهْ رحمها الله تربطها صلات روحية قوية بجدته افَّالْ بنت أحمدُّ سالم بن عَمِّ، ووالدتي منت أبنو كانت صديقة مقربة لوالدته أمنمنين بنت بد، ولباب ودين صديقتين للسيدتين عيش وتوت بنات امَّدْ بن أحمد بن الحمدْ، أدام الله حبل الود بيننا.

مُداح خير الورى أبناء مداحه
دراس سيرته حفاظ أمداحه
الباسطون للاقيهم وجوههم
جلاب أفراحه طراد أتراحه
ساقوا مسامع من راح بشدوهم
فينتشي بالذي يسقاه من راحه

ثم التفت محمد إلي وقال وهو يشير بيده إلى الأستاذ عابدين لقد بدأت علاقتي بهذا الفتى في مدرسة احسي المحصر، ثم تواصلت بعد ذلك، في روصو ونواكشوط، وأتذكر أنه كان في منتصف الثمانينات يجهز مكتب محاماة قرب منزلنا في لكصر، وكان يزورنا ويحضر مجالس السمر والطرب وكان كاف عابدين في الشور لا يجارى ولا يبارى، وأتذكر ذات هول حاشد في المنزل، أنني خاطبني رجل ملثم قائلا محمد كول:

لَمَا شيَّعْتْ افكل ابلدْ
عِزِّتكُمْ بين الأنامِ
أعظَامِ حَدْ اكصرهم بعدْ
يَجْبر عزتكم فاعظام

فاهتز المجلس طربا،
وصحت به قائلا عابدين ادخل جاي ذ ما ايكد اكولو ماهو عابدين.

تدخل عابدين قائلا إن مجلس أهل الميداح في لكصر كان في تلك الفترة مثل صالون دودو سك في اندر، فقد كان يرتاده أعيان البلد وأعضاء اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، والعديد من الوزراء، ورجال المال والأعمال، والغريب أن أغلبهم بات يميل إلى اكتساب شروط الفتوة، ويتذوق الأدب، ويهتم بالفتح في أزوان، وساق الأستاذ عابدين أسماء شهيرة وشخصيات بارزة تعرف عليها في مجلس أهل الميداح.

تذكر الفنان محمد كاف شور مرفود لعابدين، نوه فيه بأسرة أهل الميداح، وقاله أثناء أداء الفرقة لشور “شملعبهم الشهير” وهو:

الشِّعِّار الحِرَّ يَحَدْ
جَيْتْ ادُّورْ نسبهمْ
وابلد حسبهمْ هون ابلدْ
نَسَبْهُمْ وابلدْ حَسبهمْ

فطربت كثيرا لهذا الكاف المتكامل معنى ومبنى، والخالي من الحشو والزوائد.

ثم استطرد الأستاذ عابدين، أنه في 2019 تم تعيينه عضوا في حملة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في أطار، وقد أحيت فرقة أهل الميداح إحدى السهرات الانتخابية، وكان ذلك في موسم الكيطنة، فأخذ عابدين المكرفون، وقال إنه معتز بأهل الميداح ومتفائل بمقدمهم ومتيامن بطربهم، ثم أنشأ على البديهة كافا من كفان عابدين المرفودة وهو:

ياهل أطارْ احْسَانْ الخِطَّارْ
فاتْ اعطاهلكم مولانَ
واحنَ نختيرُ يأهل أطارْ
انْوَلُّ بَكْياصْ املانَ

ولا تفتك أيها القارئ الكريم تلك التورية الدقيقة في لفظ “لكياص” ، حيث يشير الأديب عابدين من خلالها إلى أن أهل أطار يخزنون البلح والزهو والبصر والتمر في أكياس لإرسالها إلى أصدقائهم وأحبائهم في الولايات الأخرى، كما يشير لفظ “لكياص” أيضا إلى صناديق الاقتراع.

بيت يُعيش جسوم الشعب مالهم
وفي غنائهم عيش لأرواحه
في شدوه العذب ما تهوى مسامعنا
وزمرُ أوتاره ودرس ألواحه
هم القريبون من مجد ومن كرم
أما الخنا فهم الناؤون عن ساحه

تجاذب الأديبان محمد وعابدين، حديثا ماتعا، تخللته بعض ذكريات مجالس لكصر الأدبية، وكنت مستمعا منصتا لما يقولان، وأثناء حديثهما تعرضا لملح نقدي لفت انتباهي، فأوعيت حديثهم أذنا صاغية.

قال الأستاذ عابدين إن من شروط مجلس أزوان أن يكون الأديب قادرا على استشراف المعنى الذي سيرد في التافلوتين الأخيرتين من كاف الشور، وأنه هو أي عابدين أعطاه الله تلك الملكة ونماها بالدربة وحضور مجالس الطرب.

يقول عابدين، كنا في مجلس طايب، يضم صديقي عبد الله بن لمسيد رحمه الله، وكان يستعد للسفر إلى المغرب، وبيظو الصيدات، فخاطبهن الأديب ول لمسيد قائلا:

الخَاسٍر مِنْكُمْ مَا ايخِصْ
خَاسِرْ ذَلِّ وَسَيْتُولِ

يقول عابدين فكرت وقدرت وأعملت قريحتي ولكنني عجزت عن إتمام الكاف أو استكناه المعنى الذي يسعى صديقي إلى اقتناصه، ثم أكمل كافه بقوله:

اهديتُ عَني لَيْنْ نِصْ
الليل أبَيَّظتولِ

فطرب الأدباء لهذه الخاتمة الجميلة التي فاجأت المتلقين، وأقبلوا على صاحبهم بالتهنئة، على اقتناصه لهذا المعنى النادر، وقد سارت بكاف ول لمسيد الركبان وغنت به القيان.

ثم تدخل الفنان الناقد محمد قائلا، إن ما وقع لعابدين وقع للفنانة صباح مع الأديب الأريب إفكو بن محمبيد رحمه الله، حيث تم استدعاء محمد وزوجه صباح لمجلس طرب في المذرذة ستحضره ثلة من فتيان إكيد، وذلك بعد مرور فترة وجيزة على زواجهما، وكان من بين الحضور الأديب الأريب فتى الفتيان افكُّ بن محمبيد رحمه الله، وكانت تربطه علاقات خاصة بأسرتي أهل أحمدو بن محمد سالم بن أحمدو بن محمد بن الميداح، وأهل أحمد بن إعلِ بن الميداح، فلما غنى محمد شور “آن ون محمدو” خاطبه فتى الفتيان افك بن محمبيد قائلا:

سعدِك يسعدِكْ زين امنينْ
ريت محمد لحمدو
يصباح

فطفق محمد يردد التفلواتن وإجيب لبرام والقوم في نشوة وطرب، أما صباح فقد أسقط في يدها، وبدأت تحدث نفسها أن إفك فضل عليها محمد، وأنه لم يخصها بشيء، وبينما هي تردد جهرا وراء محمد (آن ون محمدو)، وتجمجم سرا خواطرها النقدية بين جوانحها، إذ بالأديب اللبيب إفك يكمل كافه بقوله:

يَصَبَاحْ أُمُحَمَّدْ زَينْ
املِّ سَعدُ يَسَعْدُ

فطرب أدباء المجلس وأشادوا بعبقرية إفك حيث استطاع أن يجعل من محمد وصباح فرسي رهان في النبل والعراقة.

استعاد الأديب عابدين كاف افك من محمد فحكاه له فحفظناه وذيك مار اعل زين لغن.

ثم حدثنا الأستاذ عابدين عن موقف مشابه حصل له في مجلس طرب عند أهل الميداح، حيث خاطب الأديب البارز ديديه بن البصيري الفنانة القديرة لباب بنت الميداح قائلا:

حسِّكْ زينْ إلينْ
أغيرك فالشِّعَارْ
حِسُّ زَيْن

فاحتار الأديب عابدين في مقصود زميله، فالأديب عادة يقيم موازنة ومقارنة بين الفنانة وغيرها من المغنين ويفضلها عليهم، أما أن يشيد بصوتهم في كاف من لبتيت الناقص الذي لا يحتمل الحشو فذلك مثير للاستغراب والاستفهام.

يقول عابدين إنه أشفق على زميله ديديه وتمنى له حسن خاتمة كافه.
ولما أنهت الفنانة لباب ترجيع التفلواتن خاطبها ديديه قائلا

أغيرك فالشعار
حِسُّ زَيْنُ زَيْنْ
احْبَالِيتْ الدارْ

أثنى أدباء المجلس ونقاده على هذا الكاف واعتبروه نسيج وحدته فقد جادت به عبقرية فذة.

قلت للأديبين والناقدين محمد وعابدين، إن هذا الملمح الذي ناقشاه جميل ونادر وقد اطلعت على نماذج منه أيام مطالعتي لكتاب خزانة الأدب وقد طال عهدي به، وملخصه أن الشاعر الأموي عدي بن الرقاع كان ينشد داليته الشهيرة بين يدي الوليد بن عبد الملك، وذلك بحضور جرير والفرزدق، فلما وصل إلى قوله:

تزجي أغن كأن إبرة روقه

انشغل عنه الوليد فصمت، فقال جرير للفرزدق أما تراه يستلب بها مثلا، فقال الفرزدق يا لكع إنه يقول:
قلم أصاب من الدواة مدادها
فكان توفعه في محله

وأضاف الفرزدق إنه لما سمعت صدر بيته أشفق عليه ولما أكمله حسده عليه.

ومن أعجب ما يروى في هذا السياق أن عمرو بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله:

تشط غدا دار جيراننا

فقال له عبدالله:

وللدار بعد غد أبعد

فقال عمرو هكذا والله قلت فقال عبد الله بن عباس وهكذا يكون.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى