الأخبار

ربوع السنغال في ديوان امحمد ولد أحمد يوره

#خواطر_الصباح

بلادُ السِّنْغَانْ في نُصوص الدِّيوانْ

كانَ لمرابطْ امحمَّدْ بن أحمد يُورَ رحمة الله عليه يتردَّد كثيراً على البلاد الواقعة جنوب النهر، حيث كان يزور مدينة “انْدَرْ” في المقام الأول، ثم مدينة داكارْ وغيرهما من حواضر تلكِ البلاد …

وقد نسجَ هناك علاقاتٍ واسعةً مع مختلف أطياف المجتمع مِن مشايخَ وعلماء وأدباء ووجهاء وأشخاص عاديين، مِن السكان الأصليينَ أنفُسهم، وكذلك مع الجاليات الأجنبية عموماً، والعربية المُنحدرة من المشرق والمغرب على وجه الخصوص، كما كان دائماً، مدةَ إقاماته هناك، حاضر الفكر، ثاقب الذهن، مُرهف الحِسِّ، متأملاً لما يدور من حوله، بِنَظر إنسانٍ وأديبٍ، يلتقط الصورة من جانبها المُضيء …

وحيث إن امحمد – كما يصفه الشيخ حمدَن رحمة الله عليه – كان شاهداً على عصره مِن خلال أدبه، فقد نقل لنا ديوانه الفصيح نصوصاً عديدة تُعطي لقطاتٍ وصوراً عن طبيعة تعاطي شخصيته المُنفتحة مع الأحداث والأشخاص في السنغال، كما تُخبرنا عن ملامحَ من نمط الحياة الذي كان يتَّبِعه هناك …

وفي صدارة تلك النصوص، يبرز جلياً تعاطيه مع أفراد أسرة أهل ابن المِقداد، بحُكم العلاقة الروحية والعلمية والأسَرية التي تربط هذه الأسرة الكريمة بأهل حيِّه، حيث تتلمذَ “أبنو المقداد” والدُ الأسرة وأبناؤه مِن بعده على العلامة المانَه بن المختار بن إلَّا بن المصطفْ بن بِلَّ الأبهمي، وقد فتحت علاقة التلمذة هذه بابَ خيرٍ لِمُجتمع الشاعر، كان له أثره البالغ في وجدان هذا المجتمع وتاريخه وموروثه العلمي والأدبي والحضاري بشكل عام …

فيهم يقول امحمدْ :

الحمد لله إن الله أنزلني
دار الكرام فما أبغي بها بلدا

فما مددتُ إليهمْ للنوالِ يداً
إلا ونلت نوالا عندهم ويدا

تُنسِيك “توضح” ف”المِقراة” دارُهُمُ
ودارَ مية ف”العلياء” ف”السندا”

وإياهم يعني أيضا عندما يقول في بيتين أدرج فيهما كلمة وولفية هي “دوسُ” التي هي اسم حشَرة مؤذية لم يألفها في باديته :

“أنْدَرٌ ” فيه ما تُحب النفوسُ
من نَفِيسٍ لولا البعوض و”دُوسُ

فيه أيْدٍ كأنهنَ بحورٌ
ووجوه كأنهن شموسُ

ولما قال محمدن “دودو سك” بيتيه الجميلين في تحية “إكيدي” الذي ألفه وسكنه طويلاً حين كان يدرس على شيخه المذكور :

سَلِّمْ على “إڭيدي” إن جئتَه
وحيه مني على بعده

وقل له إني مقيم على
ما يعلم الرحمن من عهده

أجابه لمرابط امحمد بقوله :

أهلا وسهلا بسلام أتى
من شمس ذا العصر ومن فرده

ولا يفي بالفرض من رده
إلا سلام جاء من عنده

وقال مُحتفياً بقدوم القاضي “عينينَ” بن أبنو المقداد من الشرق الموريتاني حيث قضَّى فترة ومُعزيا، في نفس الوقت، في وفاة أخيه القاضي “سليمان”:

إنا نهنئ هذا القادم الآتي
بمَرْحباتٍ طويلاتٍ عريضاتِ

إنْ غاظني زمني بالبين بعدكمُ
فاليوم أسرع في تحصيل مرضاتي

وما الحياة بأرض لا تُرَوْنَ بها
إلا كمثل حياة بين حَيَّاتِ

يا ربِّ بارك لنا فيهمْ وأوْلهمُ
أسْنى الحياة وأحوالاً سنياتِ

وامنح سُليمانَ من عين الرضى نُزُلا
ومنزلا بين أنهار وجنَّاتِ

ثم الصلاة صلاة الله دائمةً
مع السلام على خير البرِياتِ

ومن ملامح حضورهم في شعره، وبالتحديد حضور القاضي سليمان، قوله في غرضٍ آخر :

عندي عليكم حقوقٌ ليس يُنكرها
مَن كان في قلبه صِدق وإيمانُ

وكيف أُغلَب والدعوَى مُحقَّقـةٌ
والشاهدُ الله والقاضي سُليمانُ

ونجده، في قطعة سريعية جميلةٍ، يرثي أحدَ أبرز رجالات الأدَب في مدينة “سينلوِي”، ألا وهو الشاعرُ المُجيد : مالك “ماجُور” سيسَ، الذي بلغت سلاسةُ وجودةُ شعره أن تناوله الصحفي الأديب بسَّام العنداري في حلقة جميلة خصصها للمديح النبوبي على أمواج هيئة الإذاعة الإبريطانية تسعينات القرن الماضي :

يارحمةً من ربنا المالـــكِ
جُودي علي قبر الفتى : مالكِ

جُودي على قبر فتًي ماجـدٍ
كالشافعي في العلم أوْ مـالكِ

مُبدِي خفايا العلم من سِترها
جالي دياجي ليلها الحالــكِ

إن كان في زماننا ناســكٌ
فأنت عين الناسك السـالكِ

هلكتَ والمُبقِي جميــلَ الثَّنا
بين البرايا ليس بالهالـــك

ويقول مُنوهاً ب”ذي النون كَنْ”، وهو -فيما يبدو- أحد الشخصيات العلمية التي تستحق الإشادة والإشارة :

قد غاص “ذو النون” في بحر وما ناصا
والنون لا غرو في بحر إذا غاصــا

تراه خالط أقواما ففاقهـــــمُ
والله يُعلي على الأشخاص أشخاصا

وعلى ذلك المنوال يقول في “أحمد ذي النسك”، أحد أعلام الإفتاء ب”سندونَه”، وهي محلةٌ من مدينة “اندَرْ” تقع في جنوب جزيرتها :

إلي الحاج مُفتي قصر”سندون” كلـه
مُجَدِّدِ هذا الدين أحمـدُ ذو النسْكِ

فتًى عينه تبكي إذا ما يَؤمنــــا
وما كل من صلَّى إماما بنا يبـكي

فأكْرِمْ به و”اسْكي” إذا ما لقيتَــه
وقد قلَّ فيهِ قولُ : أكرِم به و”اسْكِي”

ومن شعره في تلكَ المحلة أيضا قوله في فتًى اسمه “عُمر”، لم تسعف المصادرُ بتحديد هويته :

حلفتُ بالقصر من “سَنْدُونَ” قاطبةً
وما حوى القصر من “چَيْبٍ”و”بِسْكِيتِ”

لقد رأيتُ فتًى يدعونهُ عُمَـراً
كالدُّر أخلاقُه أو كاليواقيـــــتِ

ويقول في مدحِ القاضي “المامونْ كُنْتَا”، معدداً عدة محلاتٍ من مدينة “انْدَرْ” شملها قضاؤه :

لقد كنتَ مأموناً ب”سَنْدُوَنَ” إذْ كُنْتَا
فما خُنْتَ في “لَوْضٍ” و ما خُنْتَ فِي “خُنْتا”

تـــوليتَ في عصر الشباب قضاءَه
فما زلــتَ مأمــونا به مثلَ ما كُنْـتا

ويقول في أحدهم لم أجد من المعلومات عنه أكثر مما وجدته عن سابقه عمر :

صاحبتُ في القصر إنساناً فأنْسانِي
ما كنتُ أصحبُه مِن كل إنسان

قد كان يُحْسِنُ بي من قبل فِرقتـهِ
دهرٌ أساء علينا بعد إحســانِ

لا أنْسَ لِلقلْبِ إلا في تواصلــهِ
كأنه الدَّلوُ والثاني هو السَّـانِي

وإشادةً بالضيافة التي كان يُوليها له ابنُ عيَّاد الكنتِي، يقول :

يا ربَّ مُوسى الذى ناداهُ بالوادي
اجْعلْ لنا الخيرَ في دار ابن عيَّادِ

دارٌ ترا ربَّها للضيف مبتهجاً
ما بين كأس ومغــراجٍ وبرَّادِ

وكمَلمحٍ من الحياة المُترفة التي كان يعيشها بعض الأوساط الأندرية المُنبَثقة عن تواشُج الفرنسيين مع السكان المحليين لتلك المدينة، يقول امحمد :

يا شُربةً أطْفأتْ في القلب نيرانَا
مِن دارِ “لَكْـتِيرِ” أو مِن دارِ “سامانَا”

كأنما جمعَت مِن طيب نسمتها
مع اللذاذة رُمَّانًا وريحانا

مَنَّ الزمان وما خلتُ الزمان بها
ومثلِها من أماني النفسِ منَّانَا

في غرفةٍ من بناتِ الجوِّ تحسبها
بُنيانَ فرعونَ في أيامِ هامانا

وعلى نفس النسق، يقول متردداً على بيوتات مختلفة المشارب :

لولا الإلهُ لَمَا قَلّلْتُ إتيــــانَا
بَـيْتِ ” الشريفِ” وبيتِ الخَوْدِ ” دَيـَّـانَا”

فبيتُ ذا بظريفِ الشعْرِ أضْحَكنا
وبيتُ ذِي بثقِيلِ الشوقِ أبْكـَــانَا

وهل الشريفُ هذا هو صاحب طيِّبِ الشاي الذي يذكره في مقطوعة أخرى معدودةٍ في أدبِ جنوبَ النهر ؟ :

عند الشريفِ عُوَيْدٌ كادَ يَنفتِلُ
طِيباً وكادتْ عليه الناسِ تقتتلُ

تراه في الكأس مُحْمَرّاً وشاربهُ
يَمِيلُ مِنْ هدرةٍ طوراً ويعتـدِلُ

ومِن شعره المعروف جداً في السنغال قولُه يمازح رفيقَه وابنَ خالِه : الأديبُ الأنيقُ الراويةُ الثقةُ محمدْ فالْ بن محمذن بن ألمانَه، وذلك في قصة ظريفة متداولة في الموروث المحلي جداً :

يا صاحبِي دُونَ الأصاحِبِ والذي
أفْضِي إليهِ بِكُلِّ سِرٍّ غامـِضِ

لا تسقِني إلا شراباً بارِداً
يشفي الضلوعَ من الأيام العارض

فالأولياء علي جلالة قدرهـــم
لا يقدرون علي الشرابِ الحامضِ

ولا أستبعد أن يكون امحمدْ التقي في السينغال بالمُغني الشهير : حمَّادِي بن النانَه، الذي قال فيه أبياتَه التالية ضمن مُقطعات أخرى في بحرها ورويها قالها عدة شعراءَ مُجيدين في نفس الرجل، وريما أطلقوا على هذه المقطعات اسمَ “الحمَّاديات” :

شدْوُ المغني ظريفِ النفسِ حمَّـادِ
يُغْنِي الغريبَ عنِ الأوطانِ والزادِ

لوْ كان يزدادُ مِنْ “هَوْلٍ”دعوتُ لهُ
منه الزيادة لكن غيرُ مـُـزدَادِ

اشدُدْ يدَيْكَ علَى أمثالِه فلـــقدْ
فاق القِيَانَ “بأيَّام وأعْـــداد”

ويقولُ في شخصٍ عادي اسمه “محمد كَهْ”، لعله كان صاحبَ مطعَمٍ أو متجر أو نحوهما في أحد مراسي النهر المقصودة في ذلك الزمن :

يا ذا الجلال والإكرام اجْعل البَرَكَهْ
في دار سيد ذا المرْسَى “محمـدُ كَه”

المُطعمُ الجائعِ إلجائِي لِمنــــزلهِ
خُبزاً مع اللحم أو أُرْزاً على سمكَـه

إن شاركوهُ جميعاً في شرائهـــمِ
وبيعهمْ، فالمزايا غيرُ مشتركـَــهْ

ومِن شعره في مدينة “ريشارتُولْ” يقول واصفاً دار الحاكِم الفرنسي هناك، وهي – حسبما قيل لي – كانت داراً عظيمةً بيضاء تُغطِّيها الأشجارُ إلا ما كانَ مِن أعلاها :

كأن ذُرَا دَارِ ” انْدُكُوكَ ” وَدوحَهَا
يَـعَالِيلُ مُزنٍ قد عَلَاهَا جَهامُهَا

أوِ الغادةُ البيضاءُ تُكسَى بِخُضرَةٍ
وشُدَّ على غيرِ الجَبِينِ لِثامُهَا

هذا وصفٌ يستحق أن يُوقَفَ معه وعندَه مرَّاتٍ عديدة : “وشُدَّ على غيرِ الجَبِينِ لِثامُهَا …” !

و من الطريف أنه اتفق مرةً في أيام الأمير اعلِي ولد محمد لحبيب أن عُدِم القمحُ في السنغال، فكان الخبازون يلجؤون إلى زرعٍ أسودَ يُدعى “السُّوَيد” بالتصغير فيأتي خبزُهم أسودَ كلون أصله. و من المعروف أن الأ ميرَ إعْلِي كان أسودَ البشرة بسببِ خؤولته من ملوك النهر، فأمه : إچنْبتْ مَلِكَة والو الشهيرة. وكان امحمد يومها جنوب النهر فلمْ يسمحْ له حِسُّهُ التراثي و التاريخي و الأ دبي إلا أن يسجل كل ذلك، فقال مُتغزِّلا :

يا حبَّذا سوداءُ ذاتُ مَلاحةٍ
في الحُسنِ ليس لها شبيهٌ يُوجدُ

لا تحسبوا ذاك السَّوادَ يضُرُّها
فالخُبزُ أسودُ و الخليفةُ أسودُ

وكان امحمدْ مرَّةً في مدينة “انْدَرْ” زمنَ وباء ألزمت فيه الإدارة الفرنسية آنذاك الناس حُقنةً (شرطة) تفاديًا لعموم العدوى، و كان صاحب محطة القطار (الڭارْ) بالمدينة يعاين ذراع كل راكبٍ قبل صعوده حتى يرى أثر الحُقنة في جسده. وكان البُداةُ الموريتانيون حينها إذا لقي أحدُهم من تناول الحقنة أخذ شوكة و غمسها في محل حقنة صاحبه ثم حقن بها نفسه ظناً منهُ أن ذلك يكفيه. فقال امحمدْ مخاطبًا صاحب المحطة مُستحضرًا رصيده الأصولي و المنطقي :

يا صاحبَ الڭَارِ لا تتعبْ بلا سَببٍ
فَفاقدُ الشرطِ لا يأتي بمشروطِ

و النّاسُ ما بين مشروطٍ مُباشرةً
أوْ آخذٍ شرطةً مِنْ عِندِ مشرُوطِ

وفي نهاية هذه الجولة الصباحية، أورِد قطعة غريبةً غامضةً هي مثالٌ على مقطعات أخرَى على شاكِلتها تشِي بجانب غير معهود من شخصية الشاعر بعيدة الغَور، لقد كانَ لي عن هذه المقطعات يوماً حديث مع الشيخ حمدَن حيث أبدى استغرابه منها أيضاً قائلاً : امحمدْ شخصيةٌ متفائلةٌ بالطبع …”

مِن الأرجح أن خواطِرَه في هذه القطعة الجناسِيةِ كانت تدور حولَ قُدَّاسِ أو نحوه داخلَ إحدَى الكنائس في مدينة سينلوِي (انْدَرْ) :

أبْدَيتَ ياقصْرُ لِي مُسْياً أنَا جِيــلَا
يتلُو تِلاوَةَ تَطْرِيبٍ أناجِيــلَا

أمْسَى مَهَازِيلَ مِنْ دَرْسِ الكِتابِ ومَا
عَنْهُ المَهَا زِيلَ مُذْ أمْسَى مَهازيلا

تاللهِ ماذا الورَى مِنْ عَهْدِ بَابِيــلا
إلَّا عَصَائِبَ أرسالٍ أبابيــلا

ليسُوا سواءً أرى جِيلا ًمراكبُهـُـمْ
تَخْدِى بِهِمْ وأرَى جِيلاً أراجِـيلَا

واتْرُكْ عَسَايَ فما ذا المرءُ يُدْركِــهُ
إلا عَسَاقِيلَ زُورٍ إنْ عَسَى قِيلا

ورُبَّ فَرْدٍ يُوازِي الجَمْعَ مُنْفَـــرِداً
فَذِي “سَرابِيلُ” ما فاقَتْ “سَراويلا”

ما الباهِلِيُّ إذا ما جَادَ يَقْصُرُ عَــنْ
عَبْدِ المَدَانِ ولا عَنْ عَبْدِ يَالِيـلَا

سيكون لِي عن هذا الجانب من الدِّيوان حديثٌ إن شاء الله تعالَى …

ولقد بقيت مقطعاتٌ عديدة مما يمكن إدراجه تحت عنوان “بلادُ السِّنْغَانْ في نصوص الدِّيوانْ”، إلا أن لكلٍ منها سياقَها الخاص ومقامَها المناسب …

طاب مساؤكم …

عز الدين بن ڭرَّاي بن أحمد يورَ


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى