حتى لا تكون فتنة / محمد افو
من الواضح أن النظم والقوانين الديمقراطية باتت بحاجة لإعادة النظر فيها من حيث قدرتها على استيعاب الآراء وتأمين وتنظيم التنافس الذي وجدت لأجله .
فما تمر به اليوم يشبه إلى حد كبير ما يحدث في هواتفنا أو بريدنا الالكتروني حين يعبر عن تقلص مساحة الاستيعاب و التخزين أو امتلاء الذاكرة .
في هذه الحالة تكون الحاجة ماسة للتخلي عن بعض الملفات التي كانت في لحظة ما ذات أهمية كبيرة ، لكن الحاجة للحركة والديناميكية ستقتضي في هذه الحالة إعادة النظر وفق جدول الظروف الطارئة لا جدول المهام المنظمة سلفا .
وحالة التلف التي تمر بها الديمقراطية هي حالة تستخدم الديمقراطية نفسها لتدمير نفسها ذاتيا .
فالقوانين الحامية لحرية التعبير تستغل لضرب القيم والمبادئ التي جاءت الديمقراطية لتعزيزها أصلا .
ففي اللحظة التي يتم التعبير فيها عن الكراهية يقوم خطاب الكراهية نفسه باستدعاء القانون لحمايته ، ويحل التحريض محل التعبئة والتهجم محل التدافع و العنف محل الحوار ..الخ .
وفي كل هذه المظاهر والحالات يتم استدعاء الديمقراطية لحماية البدائل التي كانت في الأصل خصيما لها .
وبالنزول إلى واقعنا الوطني فإن دوافع التجمهر بدأت تتغير وتفقد معاييرها الوطنية لصالح الهواجس والمخاوف التي يكتفي أصحابها بما يعززها من تفسيرات و استنتاجات حصرا .
وهنا تكمن الخطورة في ظروف الاستقطاب ، لأن الإنسان (الناخب) لا يعبر بالضرور عن ولائه لفكرة أو برنامج أو مرشح بقدرما يعبر عن مخاوف وهواجس من خصوم تم افتراضهم وفق مناخ الاستقطاب نفسه .
ففي لبنان لا صوت يعلو على صوت الولاء للوطن أما في الواقع فلا شيء يتعلق بالوطن إلا من خلال الولاءات الضيقة .
فكيف تشكلت تلك الحالة وما هي مبرراتها؟
فالشعب اللبناني شعب مثقف وله تجربة عريقة وإرث تايخي وحضاري عظيم ، فكيف تحول بين عشية وضحاها إلى مجتمع مشحون بالمخاوف والتوجسات من بعضه البعض ونسي الجميع الوطن ؟
الولاء للطائفة في لبنان ليس ولاء آيديولوجيا كما يعتقد البعض ، ولا ولاء افكار وبرامج سياسية ، إنه ولاء للجماعة التي تحتمي ببعضها البعض من مخاوف خارجية مفترضة ( وقد تكون واهمة).
هذه المخاوف تتشكل وفق خارطة أوهام سياسية ، وأول مظاهرها هو الاندفاع نحو المحاصصة إذ تبدأ كحل تطميني غايته تعزيز الثقة وامتصاص المخاوف ، لكنه سرعان ما يتحول إلى حق يحمل دلالة ورمزية خاصة لمكانة الطائفة ضمن الكيان الكبير ، ثم تبدأ الطوائف الأخرى في حسابات الكم الديمغرافي للحصول على ما تعتبره في هذه المرحلة حقا للطائفة ( التحول من حق المواطن إلى حق الطائفة ) .
وشيئا شيئا تتطور المطالب وتتعقد الإصلاحات حتى تصل الحال إلى تعذر المحاسبة والرقابة .
فالمسيحي في لبنان متهم في نقده لرئيس الحكومة ،والنائب السني متهم في نقده لرئيس الدولة .
ورئيس البرلمان الشيعي متهم في مناقشة رئيس الحكومة .. وهكذا تتحول أجهزة الدولة إلى ملكيات طائفية لا يقبل التدخل في تسييرها ولا سيرها من قبل أجهزة أخرى ( حتى لوكانت خاضعة لها بحكم القوانين ).
وأثناء هذا التطور تكون القوى العظمى قد حددت أذرعها في هذا الاستقطاب واستولت كل منها على فرس الرهان الخاص بها .
هذا ما حدث ويحدث دائما عندما تتحول الهواجس والأوهام إلى أدوات تحكم وتتحكم في الكيان الجامع .
فالشعب اللبناني كان قبل الاستقطاب الممهد للحرب الأهلية ، كان قد تجاوز الوعي الضيق للمذهب والعرق بل كان أكثر الشعوب العربية تمدنا وانفتاحا ، لكنه بفعل الاحتقان انخرط في اسوأ تجربة عرفتها المنطقة وأكثرها سخونة وتعقيدا وفشلا .
حدث كل هذا ضمن وعي اصيل بالديمقراطية من حيث الشكل ، ولم يكن هناك صوت يعلو صوت المدنية الديمقراطية حين يتحدث لسان الطائفة عن حق التعبير والموقف .
ورغم وجود نخبة سياسية متعلمة ومتمدنة ودارسة في أغلبها في جامعات عالمية معروفة ، ورغم الخطاب السياسي المتعلق بالتنمية والبرامج الوطنية ، إلا ان الناخب اللبناني لم يعد ينصت لوعيه السياسي وإنما لتوجيه طائفته .
فعدد النواب الشيعة يترجم بدقة حجمهم الديمغرافي إلى التعداد العام للناخبين.
وكذلك السنة والمسيحيون والأرمن وغيرهم ( حسب التقسيمات العرقية والمذهبية ) .
فليس هناك ناخب سني يدلي بصوته لمرشح شيعي ولا العكس .
هكذا دمرت الهواجس وعي اللبنانيين بوطنهم وتاريخهم وحضارتهم وتجربتهم السياسية والتنموية والثقافية الكبيرة والرائدة في العالم العربي ، قبل دخولهم في أزمة الاستقطاب .
وفي كل الحالات المشابهة كان الساسة يحتضنون الهواجس ليس لتصديقها وإنما لتعزيز مكانتهم السياسية ومسايرة وعي العامة الذي يعتبره الساسة مورد بقائهم الحصري .
هذه تجربة واحدة اوردتها للاستشهاد لا الحصر ، و جل التجارب كانت تبدأ بذات الطريقة وتنتهي لذات المآلات حين لا يقطع الطريق على بواكير الأزمة .
ومن هذه النقطة سأحاول توجه الرأي العام الموريتاني إلى تجاوز بعض هذه الأوهام والهواجس التي بدأت تتشكل .
عزي المواطن
عندما تكون لديك هواجس أو مخاوف سيكون من السهل عليك تقبل التفسيرات التي تعزز تلك المخاوف وستكون غير مطمئن للتفسيرات التي تفند مخاوفك حتى لو كانت مريحة لك وتشكل حقيقة رغبتك .
انت مثلا لا تحب ان تقنع نفسك أن هناك عرقا أو قومية في وطنك تريد خداعك واستغلالك .
وقد تكون غير راغب في أن تتعزز نظرتك بعنصرية عرق أو نوايا انفصالية لدى آخر .
لكنك تفضل تعزيز مخاوفك من باب الاحتياط وهذا هو السلوك الطبيعي غير الواعي .
ما أريد أن أوجه إليه هنا ، هو أن خطاب المواسم الانتخابية خطاب حاد بطبيعته لأن المرشح لابد وأن يبرر قوته من خلال ما يستعرضه من قوة ومن خلال ما يستعرضه من ضعف منافسه .
وفي هذه الحالة تكون الأمور طبيعية لكنها ستتجه إلى مسار آحر حين نعتقد أن المرشح (س) هو ممثل عرقه أو قوميته.
من هذا المنطلق ستبدأ الهواجس في التشكل ، وتتغير حسابات الوعي لتبدأ حالة الاستنفار غير الواعي بحقيقة الديمقراطية ولا حتى بحقيقة ما يحدث .
فحين يعبر مرشح ما عن ضعف منافسه أو فساده ستبدأ غربلة خطابه وفق معايير الهواجس لا معايير الوعي الديمقراطي .
فكيف معتبر نقد المشرح (س) أو الوقوف ضده هو نقد لعرقه او قوميته أو جهته أو قبيلته .
ليس من بيننا من يستطيع تقبل الاستجابة لدافع غير منصف أو وطني .
فحين اعتقد أن دافع انصار عزيز هو دافع طبيقي (عرب -زوايا) فلن أطيق نقدهم باعتباره موجها لي (كزاوي) .
وحين أعبر عه موقفي الداعم لمحاسبة عزيز فلن يكون هذا مقبولا كرأي سياسي حين يعتقد أنصاره أنني أتحدث بدافع أنني زاوي مقابل عربي.
وحين يتحدث مسعود ولد بلخير عن غزاوني فلن يكون حديثه مسموعا سياسيا مني كبظاني ،حين أعتقد ان لدى مسعود دوافع عرقية لنقده مهما كانت وجاهة نقده وبعدها من هواجسي .
وحين يتحدث كوري عن حقوقه كمواطن فلن أسمعه كمواطن مظلوم حين أعتةتقد أنه يتحدث ككوري مخاطبا البظان .
وهكذا دواليك …
وحين تبني الهواجس مستعمراتها داخل الخطاب الوطني ، ويحس الساسة بأن هذه الهواجس بدأت تشكل حالة شعبية ، سيكون من المريح والمربح لهم استغلالها وتبنيها .
أي أنه سيظهر في تلك اللحظة سياسي يقول أن البظان كذا وكذا ، لا لشي غير استقطاب المتوجسين من البظان .
وسيظهر من يقول أن على البظان أن يتحدوا في وجه مخاوف كذا وكذا ، لا لشيء غير استقطاب المتوجسين من البظان .
وسيظهر من يقول أن لكور أقلية سيتم ابتلاعهم ، لا لشيء غير استقطاب المتوجسين من لكور..
وهكذا
وفي النهاية من يتم استقطابهم لا يعتقدون ان هناك مخاوف ولا مؤشرات مخاوف من هذه القومية أو تلك لكنهم سيفضلون الانخراط في حشد هواجسهم من باب (الحذر واجب) .
الهواجس هي اللجام الذي يضعه الساسة في رأس العامة لتوظيفهم واستغلالهم .
ليست هناك قومية في موريتانيا لديها نوايا سيئة حيال قومية أخرى ، لكن هتاك ساسة لديهم أجنداتهم السياسية .
ليست هناك مخاوف حقيقية ولكن هناك أوهام قد ننخرط جميعا في تعزيزها حين تتم الهيمنة على وعينا وتوجيهنا لصالح القادة .
وأول ما سنفعله أننا جميعا سنكفر بديمقراطيتنا ونظمنا ودستورنا ونحتكم للغلبة وحينها لن ينجو موريتاني واحد من أن يكون ضحية يعجز العالم عن تحمل آلامه.
علينا أن نكون أكثر نضجا من هواجسنا وأن ندرك أن إصلاح أمورنا مرهون بوعينا الموحد حول قضايانا عموما .
سيذهب كل الرؤساء والوزراء وقادة الأحزاب والهيئات والنافذين إلى نهايتهم ، لكن الوطن مستمر وباق .
انظروا في عيون أطفالكم الآن فلن يجدوا أمامهم ايا من الوجود التي تسخن المشهد السياسي وتزرع في ثناياه بذور الفرقة والتفكك .
وليس عليهم أن يدفعوا ثمن صراع الأفراد ونزعاتهم وحساباتهم السياسية .
نحن باقون والوطن باق ، أما الساسة فلن يكونوا أطول أعمارا من أولئك الذي قادوا الحروب الأهلية ودمروا بلدانهم وتركوها تحت رحمة الفوضى والجوع .
كل أولئك القادة اليوم بين عجوز لاجئ في مهجر رفد معه إليه ثروات قارون أَو منكل به في قبره بعد أن حاقت به جريرة استغلال الطيبين من أصحاب الهواجس الواهمة .
وأخيرا علينا أن ندرك أن لدينا فرصا كبيرة وعظيمة لتجاوز كل أزماتنا وأن لدينا الكثير مما ينبغي أن نحافظ عليه .
وأن أفضل طريق للبناء هو الشراكة وتنمية القدرات والخبرات في لاستيعاب كل التوجهات والمطالب .
وأن على ساستنا وكبرائنا أن يتحملوا مسؤولياتهم في تعزيز و حماية الموجود والإجمال والترشيد في طلب المفقود .
حتى لا تكون فتنة .