هل أصبحت الأحزاب السياسية الموريتانية تشكل خطرا على الجمهورية؟! / باب ولد الشيخ سيديا
تعتبر الأحزاب السياسية العمود الفقري للممارسة السياسية في أية ديموقراطية طبيعية تهدف إلى تنمية الوطن و رفاه المواطن و إسعاده، ففيها تولد الأفكار و تنضج السياسة و تتم صناعة و تكوين القادة و ينصهر الرأي و الرأي الآخر لتخرج البرامج إلى الرأي العام الوطني في شكلها النهائي بعد الإختلاف و التقارب و الإسقاط و المراجعة و التعديل و التنقيح.
تقوم الأحزاب السياسية -من خلال عرض هذه البرامج على الجماهير- بجرد مفصل لجميع المشاكل الوطنية الكبرى للمجتمع و الدولة لتقديم كيفية معالجتها و إيجاد حلول واضحة و فعالة و قابلة للتطبيق في مدة محددة و تأتي بالأدلة العلمية و البراهين الواضحة على كل ذلك.
تؤدي هذه التنافسية السياسية الشفافة بين الأحزاب أثناء عرضها المفصل للمشاكل و تقديمها الواضح و المدعم للحلول التي تقترحها لهذه المشاكل إلى خلق رأي عام وطني مثقف و واع تستحيل مغالطته و التلاعب على مصالحه فيكون بذلك سدا منيعا فاصلا بين الحق و الباطل يتحطم على جداره أدعياء السياسة و أعداء الوطن و كل أنواع الجهوية و القبلية و الشرائحية و العنصرية و يسلط الضوء على كل من يعيق تقدم و نمو و استقرار الجمهورية.
لقد ظهرت الأحزاب السياسية في موريتانيا العسكرية فجأة في بداية التسعينيات بعد خطاب مدينة لابول الفرنسية و الضغوط الخارجية و الإحتقان الداخلي فكانت مشوهة منذو الولادة ثم إن مواكبة الأحكام العسكرية لنشأة و تطور هذه الأحزاب في مجتمع قبلي متخلف و نخبة سياسية إنتهازية حال دون نموها بشكل صحيح حتى تتغلب على تشوهات الولادة القسرية و تتطور بشكل سليم يخدم الوطن و المواطن.
لقد ظلت هذه الأحزاب السياسية عرضة للشخصنة و التلاعب و التخريب من طرف البوليس السياسي و الأجهزة الأمنية القمعية، المؤتمرة بأوامر نخبة دكتاتورية حاكمة لا تهتم بالتخطيط لمستقبل الجمهورية الناشئة بقدر ما تهتم بضمان بقائها في الحكم و السهر على مصالحها الشخصية الضيقة، تآمرت إذن هذه الأنظمة الحاكمة المتعاقبة على هذه الأحزاب السياسية فتم إضعافها حتى لا تقوم بدورها الطبيعي في صناعة رأي عام وطني حقيقي يأخذ زمام المبادرة و يتجاوز بنا مرحلة الحكم العسكري في نسخته “المدنية ” إلى حكم مدني وطني حقيقي لا مكان فيه للأحكام العسكرية الدكتاتورية المتخلفة و النخب السياسية الإنتهازية آنية و ذاتية المصالح.
لقد تعددت مظاهر التخريب و التلاعب بالأحزاب السياسية فاتخذت أشكالا مختلفة فتم سجن السياسيين لإضعافهم و إذلالهم فلم يجدوا أرضية خصبة لتأصيل و تطوير أفكارهم و تم تفكيك الأحزاب الكبيرة ذات النخبة المثقفة إلى عدة أحزاب صغيرة متناحرة تصب كل إهتمامها على الإنتقام و التشويش بدل التعاون و المصارحة و على بيع المواقف و الترزق بها بدل تقديم البرامج الوطنية الواعدة و التركيز على توعية و تأطير الجماهير. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح ترخيص و حظر الأحزاب السياسية ورقة سياسية بيد السلطة الدكتاتورية الفاسدة تلعبها حيث شاءت لاستحواذ كل مغاضب و متاجر و متلاعب و مستفز مستعد لدخول مسلسل التمييع السياسي القذر حتى و لو كان ذلك على حساب مصلحة الجمهورية و دستورها الذي يحرم ممارسة السياسة بشكل عنصري أو فئوي أو شرائحي أو جهوي أو قبلي أو شخصي، لنصبح اليوم أمام عشرات الأحزاب السياسية الشخصية التي ترفع شعار الشريحة و الجهة و القبيلة و حتى الأسرة بشكل صريح و ووقح دون الخوف من المساءلة و المحاكمة و المعاقبة بل الأدهى و الأمر أنها قد تحظى ببعض القبول من الشعب و ذلك نظرا لعدم وجود رأي عام وطني محصن بسبب التحطيم، آنف الذكر، الذي تعرضت له كل الأسباب الموضوعية لخلق ذلك الرأي العام الوطني السليم الذي يرفض الرديء بشكل تلقائي.
لقد أصبحت الأحزاب السياسية اليوم، عكسا لما ينبغي أن تكون عليه، بؤرة للفساد السياسي و الأخلاقي و الدستوري و أداة لهدم مبادئ الجمهورية التي نطمح إليها و ملاذا دستوريا لدعاة العنصرية و الجهوية و القبلية و التفرقة و حتى أصحاب الرأي الدكتاتوري المتخلف، و تكفي نظرة بسيطة في سجل القائمين على هذه الأحزاب السياسية و علاقاتهم الخارجية و الداخلية و النظر إلى ممارساتهم السياسية من خلال ماضيهم و حاضرهم للتأكد من خطر هذه الأحزاب السياسية على الجمهورية و تطورها و على الممارسة الديموقراطية و تنويرها و تهذيبها و ترسيخها و على المجتمع و عوامل إنسجامه و تقدمه.
أعتقد أن أي تدارك جاد لبناء مستقبل سياسي ديموقراطي إيجابي يجب أن ينطلق من حل جميع الأحزاب السياسية و إعادة النظر في القوانين المنشئة و المنظمة لها و وضع حد أقصى لعددها و إنشاء لجنة وطنية تقوم على الكفاءة و الوطنية و النزاهة، بعيدا عن ممارسات البوليس السياسي البائدة، لقبولها أو رفضها و تصنيفها حسب برامجها الإقتصادية و التنموية فقط، حتى تعم فائدتها و يتحسن أداؤها و تكون ملاذا للأفكار و المفكرين الوطنيين الجادين و الحريصين على الجمهورية الإسلامية الموريتانية و تقدم و رفاهية شعبها.
إن هذه المراجعة الشاملة لبناء أحزاب سياسية وطنية قادرة على التنوير و التأطير و الإبتكار و تقديم الحلول لمشاكل الوطن و المواطن أصبحت اليوم ضرورة ملحة و مسؤولية وطنية يجب على الجميع تدارسها و بلورتها حتى لا نجد أنفسنا أمام أحزاب شخصية و جهوية و قبلية و شرائحية و عقدية دستورية و مقننة تعود بنا إلى ما قبل الجمهورية من حيث لا نشعر.
إن تصنيف و حصر و ترخيص الأحزاب السياسية حسب برامجها فقط سيكون كفيلا بخلق طبقة سياسية و طنية تتصارع من خلال أفكارها و إنجازاتها و تسد الباب أمام المتسللين عبر التراخيص الحزبية الموجهة و تضع حدا للتأثير الخارجي على السياسة الوطنية.
لقد أقام بول كاغامي نظاما سياسيا جعل من رواندا معجزة التاريخ الإفريقي الحديث لأنه لا يعترف بالسياسي إلا على أساس ما يقدمه من برامج وطنية للنهوض بالدولة الرواندية التي لم تعد تعترف بالأقلية و لا بالأغلبية العرقية و إنما تعترف فقط بالمواطن الرواندي الذي يحدد مكانته حسب ما يقدمه لتنمية و رفاهية الوطن و المواطن.