معا لإحياء معهد بوتلميت/ محمد فال ولد سيدي مليه
لم أعرف “معهد” بتلميت إلا في الثمانينات بعد أن أصبح ثانوية.. غير أنه على مدى عقود وعقود ظل يحتفظ بتسميته الأولى. فالكل هناك يطلق عليه “المعهد” دون أي اكتراث بوضعه الجديد لأنه جزء من الوجدان الجمعي المحلي، مرتبط بعظمة القوم وسمو هممهم. فعندما كان إعدادية بقي معهدا بالنسبة لأهل بتلميت، وعندما أصبح ثانوية لم يكن غير “معهد” بمناهج جديدة. إنه الصرح العلمي العملاق والتحفة المعمارية الفريدة التي أفرغتها الأنظمة من محتواها المعماري، ونهبت سمعتها العلمية، وفتكت برسالتها الإفريقية الخالدة..
عندما التحقتُ بذلك المبنى المهيب، حيث درست ست سنوات، كان “المعهد” مسرحا لجدال حركي سياسي لا ينتهي بين مراهقين قوميين وإخوانيين ويساريين. كان “ولد القاسم”، يأتي مع رفاق ناصريين في دراريع سوداء يرمزون بها لفكرة لم أستوعبها.. لكن خروجهم عن المألوف في الملبس أعطاهم شهرة كبيرة في أوساط الطلاب وإن وصفوهم، تهكما، بـ”الغربان”. أما الإخوان، فكان الشاب الخلوق، أحمد ولد دحمان ولد بابي، من ألْمَع “المجادلين” فيهم، فهو عنترتهم في أيام الوغى السياسي إذ قليلا ما “بارزه” أحد وصرعه في معارك النقاش المستعر. فيما كان صديقاي موسى ولد حبيب وعبد الله ولد يوسف أشهر اليساريين في تلك المرحلة المخوفة من الحكم الاستثنائي العسكري. ورغم أن غالبية التلاميذ كانوا دون وعي سياسي، أو غير مهتمين بالنشاط الحركي، ظل قريني، المصاحب على الدوام، أحمد ولد ديديّا، واقفا، وقتئذ، في برزخ حائر بين الصوفية والسلفية.
عند الحديث عن “المعهد”، لا يمكن أن ننبش الذاكرة إلا واعترضتنا أسماء ظلت عالقة بالذهن لأنها كانت تتمتع، كل في ميدانه وعلى مستواه، بكاريزمية خاصة. على رأس لائحة تلك الأسماء يأتي أستاذي، العلامة الجليل، المغفور له إسحاق ولد محمد. بأسلوبه المباشر في الحديث، بصراحته ووقاره وشكيمته، بقوة شخصيته، بفهمه غير المعاصر للتراتبية الاجتماعية، وبأصالته وتمسكه بتقاليد أنبل الأرستقراطيات القديمة، يمثل آخر رمز يجسد مرحلة معينة من “حضارة لحواش”.