استمعتُ إلى تسجيلٍ للعلامة محمد سالم ابن عدّود -رحمه الله-، يُعلِّقُ فيه تعليقًا لغويًّا على بعض ما يَشِيعُ في لغة اليوم من الألفاظ، وكان لي هذا التعقيب، وما فيه من مخالفةٍ لما ذهَب إليه الشيخُ فلا يَخرُجُ عن مخالفةِ الطالبِ لشيخِه:
مِن أحسنِ الدقائق التي نبَّه إليها فضيلةُ الشيخ -رحمه الله- ما قاله في معرضِ حديثِه عن خطإ تشديدِ اللام في (وُلَاة) جمعِ (والٍ)؛ إذْ وجَّه اللفظ إلى صيغة أخرى، هي (وُلَّات) جمعُ (والتٍ) على القياس، من قولهم: ولَتَه حقَّه (يَلِتُه وَلْتًا): نقَصَه، وفي القرآن: {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}.. وهذا تنبيه دقيق لا يَكاد يُفطن إليه.
قُلْتُ: وما أكثرَ وَلْتَ وُلَاةِ زماننا؛ فأكثرُ الوُلَاةِ وُلَّات!
أمَّا تصحيحُ الشيخِ للفظِ (الهُوِّية) بضم الهاءِ وتشديدِ الواوِ فهو الصحيح وَفْقًا لقاعدة النسب؛ واللغويون يصححُوها بضم الهاء، وينسَون تشديدَ الواو. والمقرَّرُ في قواعدِ النسب أنَّ ما كان على حرفين مِمَّا ثانِيهِ واوٌ، تُشدَّدُ واوُه في النسب، ويُمثلون له بـ(لَوِّيّ) نسبةً إلى (لَوْ).
ومما استنكَره الشيخ: مصطلح (الماء الشروب)؛ ويمكن تصحيحُه من جهتين: أولاهما ما ذكرتْه المعاجم بدءًا من العين -فما بعده- مِن أنَّ الماء الشروب هو الماء الذي فيه شيء من عذوبة، أو بين العذب والملح، أو فيه ملوحة خفيفة لا تمنعُ من شُربه. وكان العامة قديمًا – كما ذكَر بعض شراح الفصيح- يطلقونه على الماء العذب الذي يلتذُّه شاربه.
والأخرى: أنَّ أصلَ الصيغة (شَروب) للمبالغة، ولكنها انصرفتْ إلى معنى الشيء المتخَذ للفعل المصُوغ منه، أي ما يُشرب؛ ومنه قولُهم: الرَّكوب، والحَلوب، ونحوُ ذلك.
ونص الزمخشري على هذا اللفظ في تعليله لهذه الصيغة، في قوله: «وَهَذَا مِمَّا يستغربُه أهل اللُّغَة زاعمين أَنه (فعول) بِمَعْنى (مفعولة) نظرًا إِلَى الظَّاهِر؛ والحقيقة أَنه بِمَعْنى (فاعلة)؛ وَالْأَصْل فِيهِ أَن الْفِعْل كَمَا يُسند إِلَى مباشره يُسند إِلى الْحَامِل عَلَيْهِ والمطرق إِلى إحداثه.
ثمَّ قيلَ على هَذَا النهج: نَاقَةٌ حَلُوب؛ لِأَنَّهَا تَحمل على احتلابها بِكَوْنِهَا ذَات حلبٍ فَكَأَنَّهَا تَحلبُ نَفسَهَا لحملِها على الْحَلب… وَمن ذَلِك المَاء الشروب، وَالطَّرِيق الرّكُوب، وأشباهها».
وأمَّا (خَدَمات) فقد صرَفها الشيخُ إلى معنًى آخر – غير المعنى الشائع اليوم-، وهو جمعُ «خَدَمة» (بفتحتين) التي هي الخلخال، كأنه يَقصُرُها على هذا المعنى، مع أنَّ هذا الجمعَ مهجور في الاستعمال -وإن كان مقيسًا-، والمشهورُ المستعملُ في جمع (خَدَمة) هو (خَدَم)، و(خِدَام).
واكتفى الشيخُ بتصحيح (خِدمات) بالكسر، ولم يُصحِّحْ (خَدَمات) بالفتح؛ وذلك لحمله الجمعَ على (خِدمة) بالكسر. فهو لم يَستحضِرْ صيغةَ اسم المرة (خَدْمة) التي يمكن حملُ الجمع المفتوح الخاء (خَدَمات) عليها، وهي أيضًا صيغةٌ مسموعةٌ لاسم المصدر.
وأمَّا قول الشيخ -رحمه الله- عن (أدان يُدين إدانة): «لا أعرفُه»، فلعله سهوٌ منه.. فهذا البناءُ مسموع في كلام العرب، ومذكورٌ في أمات كتب اللغة والمعاجم، لكن في معنى الإقراض والبيع بالدَّين، لا بالمعنى المحدث الذي أقره مجمع اللغة المصري، وهو إثباتُ التهمة وما يترتب عليه من محاسبة وجزاء.
ومِمَّا سُمع فيه هذا البناءُ في معنى المعاملة بالدَّين قول أبي ذؤيب الهذلي:
أَدَانَ، وَأَنْبَأَهُ الْأَوَّلُونَ … بِأَنَّ الْمُدَانَ مَلِيٌّ وَفِيُّ
ولعلَّ الشيخَ يَعني بقوله «لا أعرفه» إنكارَ اللفظ بالمعنى المحدث.
وأما قولُ الشيخ عن لفظة «لفظة» إنها محدثة؛ فهو صحيح إذا رادفْنا بين المحدَث والمولَّد، أو عددْنا المولَّد داخلًا في المُحدث. وإن كان المحدَثُ في اصطلاح اللغويين المعاصرين مختصًّا بما جدَّ في لغتِنا المعاصرة من ألفاظ الحضارة والمخترعات الحديثة، وما أشبهها (اشتقاقًا أو نحتًا أو تعريبًا أو اقتراضًا).
ثم إن “اللفظة” من المَقيس الذي لا يُشترط فيه السماع؛ فهي اسمُ مرة من اللفظ قياسًا، واللفظُ يطلق على الكلام؛ فيَصِحُّ بهذا المعنى إطلاقُ اللفظة على الكلمة الواحدة.
وقد استفاض استعمالُ «اللفظة» بمعنى «الكلمة الواحدة» بين جمهور اللغويين وغيرهم، ومنهم ابن سلام، وابنُ السكيت، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، وابنُ جني وابنُ فارس والثعالبي، وغيرهم كثير. والله أعلى وأعلم.
رحم الله العلامة محمد سالم ابن عدُّود، وجزاه عن اللغة العربية خير الجزاء.
الأستاذ/ أحمد سالم مقام