أروع مقال ساخر عن الفساد والمفسدين
لا أدري لو قُدّر لي يوماً أن “أمسك” منصباً من فئة “معالي” فهل سأكون “فاسداً” أم لا؟ وهل سيتجرأ زميلي حينها “معالي رئيس المكافحة” على وصمي بالمفسد؛ وبالتالي محاسبتي، أم أن الزمالة التي ستربطني به يومها ستجبره على غض الطرف عني والاتجاه إلى موظفي إدارتي الصغار والتنكيل بهم.
أنا الآن مجرد موظف عادي، وليس لدي أي فرصة “للفساد” بمعناه المتعارف عليه، وليس من صلاحياتي توقيع عقد بالملايين ولا الإشراف على أي مناقصة أو حتى التعاقد مع خبير ولا حتى مدرب لياقة أجنبي.
كل ما يمكن أن “أفسد فيه” أشياء بسيطة، مثل ماكينة التصوير التي أستغلها أحياناً لتصوير صفحات من كتاب الطهي لزوجتي “الفاسدة”، التي لا تحترم حقوق مؤلفة الكتاب “الفاسدة”، التي سرقت أغلب الطبخات من منتدى “حواء”، كما أقوم بتصوير بعض نماذج الاختبارات لأبنائي “المفسدين” الذين استطاعوا إقناع مدرسهم “الفاسد” بتزويدهم بمجموعة من الأسئلة التي لن يخرج عنها الاختبار، تحت نظر مدير ومالك المدرسة “المفسدَيْن” اللذين لا يهمهما سوى زيادة الأرباح.
كما أنني أستخدم هاتف العمل في عمل مكالمات على جوال عامل الاستراحة “الفاسد”، المقيم بصورة غير نظامية؛ لكي يجهـز لي رأس المعسـل (نوع من التدخين) خلال وقت الدوام، إضافة إلى أنني أمارس الكذب مع المراجعين؛ حيث أخبرهم بأن مديري “الفاسد” في اجتماع بينما هو خارج المكتب في الطريق إلى المستوصف الأهلي “الفاسد”؛ ليقابل طبيباً “فاسداً”؛ ليمنح زوجته المعلمة “الفاسدة” تقريراً طبياً مدفوع الثمن لغيابها لمدة أسبوع قضته مع سعادة المدير في دبي، وتركا الأبناء مع الشغالة “الفاسدة” الهاربة من كفيلها.
في الحقيقة، لا أدري إن كنت “بوضعي الحالي” هدفاً سهلاً لهيئة مكافحة الفساد أم أن “فسادي” من النوع المتفشي والمتعارف عليه ويمارسه الجميع؛ حيث إنه لم يعد يسمى فساداً، لدرجة أن موظفي مكافحة الفساد أنفسهم يمارسونه بشكل يومي، وعندها من سيحاسبهم هم؟
كما أنني لا أدري إن كان يجوز لنا أن نطلق على من يسرق الملايين مفسداً أم لا؛ بحكم أننا بالتأكيد سنفعل ما يفعله لو كنا مكانه، ولن نتورع عن ذلك، فمن المؤكد أن من يسرق ورقة تصوير سيسرق مليوناً، ومن يرضى بإيواء خادمة هاربة سيتستر على مائة تاجر أجنبي يمارسون التجارة باسمه، ومن يشتري الأسئلة سيشتري ذمة أكبر مقاول، ومن يحصل على تقرير طبي مزوَّر سيزوِّر تقريراً باستلام مشروع لم ينفَّذ أصلاً.
الفاسد فاسد، سواء كان يسرق الملايين أو يسرق ورقة تصوير أو يسرق وقت الدوام، والفرق بين هذا وذاك أن “هذا” وجد مالاً يسرقه و”ذاك” لم يجد مالاً فسرق ما يظنه أقل ضرراً، بينما هو أكبر تأثيراً.
في النهاية يبقى السؤال: هل وجود هيئة لمكافحة الفساد يدل على حرصنا على مكافحته، أم أنه اعتراف بأن الفساد قد انتشر لدرجة يتوجب معها إنشاء هيئة لمحاولة إخفائه عن الأعين، وتنبيه بعض المفسدين المكشوفين لكي يستروا أنفسهم؟
في كلتا الحالين فإن الفساد – من وجهة نظري – لا يمكن أن نحصره في شخص معين “ماسك منصب”؛ فهو ليس صفة شخصية يتصف بها فلان ولا يتصف بها فلان؛ الفساد مثل الفيروس، يوجد في البيئة الصالحة لتكاثره؛ فكما أن الفيروس يعيش في الجسم الضعيف قليل المناعة فإن الفساد ينتشر في البيئة ضعيفة “القوانين” وقليلة “الرقابة”.
بالطبع أقصد القانون الذي لا يضعه الوزير، والرقابة التي لا يكون رئيسها من فئة “معالي”.
سأل عمر بن الخطاب عمرو بن العاص
حين ولّاه على مصر : إذا جاءك سارق
ماذا تفعل به قال: أقطع يده فقال عمر :
وأنا إن جاءني جائع ، قطعت يدك .!!
بقلم/ الكاتب السعودي المعروف الدكتور محمد العمري