آراء وتحليلاتالأخبار

تراث الأوبئة وجدلية الحاضر في موريتانيا / باب ولد أحمد ولد الشيخ سيديا

 

 

من المعروف ضرورة أن البشرية عرفت تحولات عميقة أنتجتها ردات فعل عنيفة،  نتيجة الخوف من المجهول، وضبابية المستقبل المبتغى فى ظل الجوائح والأوبئة ، وهي ردات سيكولوجية طبيعية في اللاوعي الإنساني نظرا لتضارب المواقف القيمية وعدم نضجها في اللحظات العصيبة، وهي أفعال حقا غير عقلانية، ولا منطقية لكنها مبررة وفق النفسية الانسانية المضطربة.

 

لكننا أمام أسئلة جوهرية تستدعى منا الإجابة والعمل وفقها من قبيل ما علاقة الإنسان بالأوبئة ومدى التأثير الحاصل نتيجتها؟ ماهي الحدود الطبيعية  للحرية في ظل الأوبئة لأن المسألة مسألة جماعات ورؤية مجتمعية خوفا من الخطر القادم؟ أي أفق للعوالم المتخلفة في محاربة أزمة من هذا القبيل.؟.

 

تبدو علاقة الإنسان بالأوبئة والجوائح علاقة متجذرة في التاريخ البشري تطرح مسارا تصاعديا وتصادميا في الأفكار حول الوقاية والعلاج وحتى السبب المسبب لأي عارض مهما كان نوعه، لذا فنحن أمام معطيين ظاهرين على الأقل يمكن تفسيرهما على عجل بين الغيبي والعلمي فالأول يتعلق بأن الأوبئة  مؤداها  أخطاء الآدميين نتيجة أفعالهم وهو ذنب يطال الجميع صالحهم وطالحهم، حتى أننا أمام حالات لنماذج إسلامية ناصعة في هذا الاتجاه تقدمها  كثيرا الكتابات التاريخية  في سؤالها عن مكمن الوباء وأسباب وجوده .

 

أما المعطى الآخر فهو معطى علمى ينساق تتبعا لتطور  الحضارة العربية الإسلامية وتطور المعارف فيها،  وهو أمر نجد وجاهته في تتبع مسار اتجاهاته، حيث  أننا ننتقل من حالة غير مفهومة  في مرحلة أولى تتعلق بالجن،  إلى دراسة الشهب والرجوم بوصفها عوامل  مساعدة في انتقال هذه الأمراض والجوائح إلى الإنسان في مرحلة ثانية، إلى التوسع العمراني  والرفاه بمفهومه البشرى باعتباره سببا من الأسباب المباشرة في حدوث الوباء وانتقاله عبر الأمزجة والطباع في مرحلة ثالثة.

لذلك كانت  رسالة ابن هيدور من أهم الرسائل العلمية في هذا السياق،  إن لم تكن البارزة على الأقل في نظر تحولاتي عميق لفهمنا للوباء وسلوكياته وأنماطه. ينضاف إلى ذلك إنتاج المدونة الاسلامية لعناوين تختص بالأوبئة فقط،  دونما سواها من المواضيع، مما يعكس نضوجا في الكتابات وطرق معالجاتها البنيوية  لمفهوم الوباء  وكيفية الوقاية منه بين العزل الصحى وأخذ الاحترازات الضرورية المكلف بها شرعا وعملا. بالتالى كان الجدل حاصلا بين الرؤيتين هل العزل يكفى أم لا مبرر له على الإطلاق وهو نقاش أبان فيه بن هيدور عن نضج علمي كبير في ممارسة العزل الصحي بوصفه إطارا أمثل لمحاربة الجوائح.

 

ولعل الأمرين حسب اعتقادنا ظلا يسيطران على ثقافتنا اتجاه أي تفش وبائي أصاب الحضارة العربية الإسلامية طوال تواريخها العميقة مشفوعا بسؤال  كيف نقى أنفسنا من  الوباء،  ماهي سبل النجاة في سياقين  شرعي وطبي أو علمي وهو جدل ظل قائما،  ولم يكن بالمستجد الطارئ على الأقل في زماننا، خصوصا في العلاقات التعبدية بين الإنسان وربه،  وممارساتها وفق التعاليم الإسلامية في أي زمان ومكان مهما كانت طبيعته وتداعياته(صلاة الجمعة، صلاة العيدين، صلاة الجماعة..الخ)، أو كان نظرا في المستجد النوازلي بما يملى من مقصد اجتهادي معين،  وهو نظر يقدم لنا في تراث  الغرب الإسلامي بكثير من الجدل واختلاف الاجتهادات حول الوسائل والقدرة على تجاوز المعضلات في نقاش  خصب وثري في  الساحة الثقافية، ولم يجد القراءات التاريخية الضرورية لتفكيكه، وتحليله نظرا لأهمية هذه الأعمال الفكرية الناضجة،  خصوصا فى تونس عند قدوم الوباء الأسود، وما كان من مناظرات بين المالكية  والحنفية يقدمها لنا صاحب كتاب إتحاف الزمان، والحق أن هذه الأفكار تخلق لنا تصورا منهجيا حول تطور الأوبئة وفهم الإنسان لها في ظل منظومتنا الاسلامية،  وتخلق رأيا موازيا إن لم يكن متوافقا بشكل متطابق مع الواقع المعاش المعاصر .

 

لذا فإن التراث ثري وبالإمكان البناء عليه فى إدارتنا للجوائح بطريقة مثالية تجنبنا الضبابية في المستقبل وفق رؤية حضارية،  تأخذ مفهوم القيم الإنسانية كوعاء جامع للأمة الموريتانية،  لتنسجم وفقه مختلف الرؤى مهما كانت طبيعتها أو مواقفها،  فالأزمات العصيبة للأمم ليست إطارا سياسيا لتبيان أو إظهار غلبة جانب ما بالمفهوم السياسي على الآخر، ورغم ذلك استغلت المسألة السياسية كثيرا في التواريخ العامة، حتى وضعت جماعة سياسية ما بوصفها هي الأمثل، حتى أن الأوبئة تقع بفعل سياسي ما معين!!!.

 

لذلك تظهر العلاقات السياسية كافراز لواقع متجذر حول أنماط الحكم ومطابقته الشرائع،  ولمفهومي العدل والمساواة، حتى نظر البعض إلى أن هذا العامل عامل راجح للاتقاء من الأوبئة،  فكلما كان جهاز  الحكم صالحا كانت الخسائر أقل إن لم تكن منعدمة، وهو تخيل سلطوي استعان به أصحاب هذا الرأي  كثيرا في فهمهم لكل ما يحصل في مجالاتهم الجغرافية من تطورات للأوبئة والقلاقل.

 

بل إن الجشع والمضاربة فى منهج لا انساني ينافى الفطرة البشرية المتسامحة هو أمر له وجاهته التاريخية،  فقد كان الإنسان العادى شجعا في مثل هذه اللحظات متناسيا آدميته في التعاون والتعاضد، وهي أمور تفهم جدا عندما نرى الثراء الجديد في زمن الاوبئة والجوائح. رواج بضائع ما والعمل على خلق أزمات معينة من أجل المضاربات الاقتصادية والربح الكبير،  وهو أمر تعج به الكتابات التاريخية الوسيطة في ذكر نماذج معينة في الزمان والمكان ونوعية الربح. وقد تفشى هذا الأمر في زماننا وأصبح واضح المعالم والآثار.

 

إذا ما العمل فى ظل هذا التراث الضخم الذي  يصف الماضي المشابه للحاضر في كثير من التمثلات، وهو أمر يعين على وضع آليات جديدة من أجل فهم المجتمع وتطوراته و استجابته للأمور غير المتوقعة لذا ثمة أسباب يجب توفرها سريعا:

 

خلق تكافل اجتماعي جديد أي عقد اجتماعي يستجيب للمتغير الطارئ،  لأننا أمام تحولات عميقة ستفرزها تطورات الوباء في محيطنا العام،  مما يحيل إلى تبدل في فهم الدولة وواجباتها اتجاه مواطنيها. مما  ستكون له تداعيات عميقة في منطقة الساحل والصحراء نظرا لهشاشة الدول من جهة واقتصاداتها من جهة أخرى. وهو أمر مفهوم عندما طالبت قياداته برفع الديون كسبب من أسباب التغلب على الجائحة.

 

التكيف  مع الواقع وفق مقاربات جديدة تفرض قيما  وتطلعات جديدة  للفرد والجماعة  ، لذا فإن وضع هذه التصورات، من قبل نخبة البلد في تجمع ترعاه الدولة  لفهم المستقبل هو ضرورة واقعية ومطلب ملح،  لأن عالم ما بعد كورنا سيكون مختلفا في التعاطي السياسي،  وحتى في فهم المجتمعات لأدوارها.

 

خلق  فضاء سياسي جامع يبتعد عن المجابهة وطبيعة الرد السياسي العنيف، لأن الأزمات تولد توحدا معينا حتى  ولو كان الاختلاف بينا وواضحا في الرؤى والأهداف لما بعد الأزمة.

 

أن هذا الوباء فرض معطيات جديدة حول سؤال الذات وقيمها، لكنها قيم تثبت المشترك الإنساني وضرورة التعاون الدولى لتجاوز أي محنة أو جائحة، ولعل مفهوم الدولة القادرة سيتقلص مع استمرارية الأزمة ليتأكد  العالم من حقيقة مفادها أن القيم السامية في الاتحاد والتعاضد مسألة لا غنى عنها لنعبر سويا. وأن لا مجال للتقاعس من أي طرف كان لأن التجارب تفيد بإيجاد توحد  دائم لتجاوز الأزمات خصوصا العالمية منها وان اختلف التعاطي والتقدير بين كل دولة وأخرى.

 

يجب أن تلعب الدولة  الدور الاجتماعي اللازم حتى ولو كانت في نظرتها السياسية لديها طرح عالمي آخر تنسجم فيه كل الأطاريح أو أغلبها، وفق نظام عالمي باتت الفردانية تلعب فيه الدور الأساسي. لذا فتنظيم هذا الدور والسهر عليه من قبل الدولة سيكون له بعد أخلاقي كبير وسيضفي تعلقا بالثوابت والمصائر مطلوب في هذه اللحظات.

 

نحن عموما أمام متغير عالمي سيغير الكثير من الطبائع  العامة حول علاقاتنا بالآخر وحتى تبدل مجموعة من المفاهيم المحلية ، لكنها ستشكل فرصة حقيقة لإبراز قيم التكافل والتعاضد والتآزر، لنعبر وفق حوار مجتمعي هادئ ورزين أفرزه الواقع،  مما يقوى اللحمة ويساعد في وضع استراتيجيات عميقة يرعاها أهل الاختصاص في تجاوز اللحظة والبناء عليها،  فالمجتمعات قد تمرض لكن ذلك لا يمنعها من النهوض أقوى وأشد وفق ثنائية التشاور والمصلحة العليا للبلد. ولم تكن المحن في المجال الموريتاني ببعيد عن هذا التصور .

 

ختاما تستدعى هذه للحظة العصيبة تكاملا لوجهتي نظر يجب العمل عليهما معا دونما خلل ولا مواربة فالمعالجات تقتضي نظرا عميقا وتحركا سريعا للمعاش ولما بعده، فالأزمات تولد المجتمعات المتجانسة في تصوراتها وتمثلاتها، فالأوبئة على عنفوان آثارها تخلق الانسجام المطلوب إذا ما روعيت الأسباب العميقة لذلك التوجه.

 

لذا فالبلد في فترة حرجة من تاريخه العصيب،  تستدعى منا جميعا المشاركة كل من موقعه بشكل فاعل في بناء مستقبل واضح المعالم تشرك فيه النخبة وأهل الرأي عموما لدولة العدل والمساواة. حفظ الله البلاد والعباد.

 

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى