الأخبار

ذكرى “وقافتي” لا رحمها الله…/ المرتضى محمد أشفاق

لم نصل بعد إلى المعبر الغربي، لكن سيارتي العجوز شرعت تغني، خلتها أولا تعوي أو تنتحب، فأسلاك الخياطة لم تنزع لأن جراح عمود المقود لم تندمل بعد …

 

تقدمنا حبوا على الشريط الأيمن مفسحين الطريق لبقية السيارات، لا نأمن أن تعثر العجوز و تتعطل عن الحركة …بدأت الأصوات من جديد، خيل إلينا أن الماكنة بدأت العزف في مقام “كر” قلت لصاحبي هل تسمع غناء، قال بالتأكيد أسمع ما يشبه الحوقلة بصوت عمنا (سيدي سالم) ،،ثم بدا لها أن تغير المقام وسمعنا أصواتا تغني هذه المرة في “لحجب”ثم “التحرار” تمايل صديقي من شدة الطرب وقال يخيل إلي أني أسمع العجلة اليسرى تغني “وصف أحمد سالم كال حد انو شافو بخلافو وصف احمد سالم ما يكد حد إكول انو شافو ” والله أل اسكي”…

 

لما اقتربنا من الكثيب الكبير ارتفعت جلبة المحرك و الفرميل والعجلات بالسعال والأنين ثم غنوا وصلة قصيرة في ” اللين” وانتقلوا إلى “أعظال” ثم خيل إلينا أننا نسمع ” تمبرم زينه ” لست أدري هل احترمت العجوز ترتيب نغمات الهول…

 

عندما هبطنا إلى أول “تيارت” قلت لصاحبي ما ذا تسمع الآن ؟ قال لي بنات “اسويدن” يغنين “ويل الناجي راهو مات”… وعند ارويبين حمي الطبل و بدأت الماكنة في الزغاريد ثم ارتفع الصفير، قال لي صديقي لا عليك، يبدو أن معنا جمهورا قد طرب و هويستزيد بهذا الصفير ….

 

قرأت نص المازني حول السيارة الملعونة لما كنت في الإعدادية، وكان أكبر مايلفت نظري فيه قوله: كر كر كر ،أرتنـــي النجوم في الظهر الأحمر، لقرب الألفاظ والمعاني من الحسانية……لم تبلغ وقافتي(هي لاتستحق أن تكون اسم فاعل لأنها لم تسر أصلا فكيف تكون سيارة؟) لم تبلغ مستوى سيـارة المازني، فتلك تتحرك وتمرض وتشفى، أما هذه فقد لازمتها العلل المتنوعة، فــــبدت تارة مثالا، وطورا أجوف، وآونة ناقصا، وأحيانا لفيفا بالياء والواو جميعها، كانت تصلح وسيلة إيضاح لتلاميذ السنة الأولى من الإعدادية في شرح أنواع الفعل المعتل ….

علمـتني أن هناك مايسمى جنون الرغبة، وأنه مرض معد…..ذكرتني بما تبديه العجوز من الزينة، وما تبالغ فيه مـن التبرج، ثم تتمنع حتى يظن البريء بها عفة و طهرا، والحق أنها تحرص على عدم كشف المستور……

 

كان أصدقائي يشجعونني على شرائها وأنا أجري أمامهم جري عداء في منحدر … شعرت أني أختصر مراحل اختبارها، وأدعها تدخل قلبي بلا أوراق، أتمنى أن يكذبني المستشار التقنى الذي ذهبنا نستشهده …اكتشف التقني أن جهاز التسخين متعطل، فبادرت إلى تبديله ب: 9000 أوقية وبكرم جامح ولــم أدرك أنها الصفعة الأولى، والمنبه على أن هذا الذي أوله هذا آخره لاينتظر، ثم ظهر أن الجهاز غير تالف، بل التلف في أشياء أخرى لم يهتد خبراء كهرباء السيارات في المدينة إلى مركز العطب فيها حتى اليوم.. وصبحتنا في اليوم التالي بعطب في كرسي الماكنة وأصلحه الميكانيكي ب:3000 أوقية، لكن فـترة الشفاء لم تطل فتعطلت مساء ذلك اليوم نهائيا ويئس منهـا الآسون …

 

عند الصباح أدخلت بيت الحجز الصحي وقام فريق كامل بتشريحها عضوا عضوا، فبدا أن أجزاء كثيرة من جسمها مصابة بتلف شديد، وكتب (الميكانيكي) الوصفـــة وأحضرت الأعضـاء الصحيحة من انواكشوط، وشرع الفريق في عملية جراحية دامت يوما ونصف يـــوم، حتى إذا انتهت وظننا أنا قادرون عليها أتاها وباء ضعف الشحن، وتم العلاج في الحال، وخرجت لفترة نقاهة هيجت فيها كوامن الداء، فأصاب ذراعها اليسرى شلل تام، وجلبت ذراع صحيحة من انواكشوط، وسارت في رحلة تجريبية تسببت في شلل ذراعها اليمنى، فأحضرها الميكانيكي وتم العلاج ..

 

وفي أول ليلة تقضيها خارج العيادة باتت تقيء سائلا أسود كاد يغرق أعنز الجيران.. وحضر المسعفون، وجرها فريق بعدد تلاميذ سادس رياضي إلى العيادة من جديد، وبعد الكشف اتضح أنها مصابة بقرحة مضخة الزيت فاستبدلت في الحال، فبدا لمصرانها الكبير(انبوب الدخان) أن يدلي دلوه في مستنقع الأسقام، وإذا هو يشكو من فتحات متعددة، لعبت دور مكبر صوت لخروج الدخان، وكنا كلما مررنا بقوم جعلوا أصابعهم في آذانهم من الانفجارات،

 

واستفدنا من سحب الدخان الكثيفة التي كانت تغطينا فلا يرانا الناس، اقتضت الحال أن نعرج على بيت “اللحام ” وسدت الفجوات، وقال الميكانيكي المشرف وقد تحركت فيه عاطفة الشفقة عليَّ، والرحمة بي، إنها ستخرج قطعا هذه المرة في صحة تامة، لعل حجته أنها استنفدت مايخطر وما لايخطر على البال من أوجاع السيارات…لكن صاحبتنا كانت وقورا، كتوما، تستحيي أن تبدي حتى نعمة العافية، فعثرت لما أرادوا منها نشاط الشباب …وتبين أنها علل آخذ بعضها برقاب بعض، وأن أعضاء هذه الوقافة متحابة متوادة، كلما مرض منها عضو تداعى له سائر أعضائها بالعطب والتلف ..

 

معضلة أخرى جديدة من نوعها جلبتها علي هذه الوقافة: كثرة المهنئين، فمن عادة الإخوان أن يباركوا في هذا النوع من المناسبات، فهو دليل تحسن مادي يطمح إليه الناس، ويتمنونه لمن يحبون، لكن الإخوان جزاهم الله خيرا ما كانوا يعلمون أن صاحبتنا ظلت قطينة غرفة الإنعاش من أول يوم .

 

والغريب أني ظللت أنفـق عليها بسخاء مجنون، وقد بدا أنها لا تشبع، وأن العافية لا تعرف إلى جسمها سبيلا.قضيت ثلث هذه المدة في بيوت الميكانيكيين، تغوص قدماي في وحل الزيت المحروق، وأغرق في أنواء الدخان والأصوات المتشاكسة للمنبهات والماكنات العليلة، مع ما استنفـده جهازي النقال من بطاقات تزويد ضاع معظمها في استخبار( الميكانيكي) عن أحواله وأحوال اسرته وأسفاره والتمنيات له بالصحة والعافية، مع ما كنت أتملقه به من صنوف خطابات الود والاستعطاف رجاء أن يجود علي بنبوءة عن مستقبل المريضة وتاريخ تماثلها للبرء.لكنها على كل حال كانت أياما مكنتني من صلة أرحام لرجال وقفنا معا على صعيد واحد تشرب أطراف ثيابنا السفلية سيول الزيت الأسود وترسم بها حول العراقيب وأسفـل الساقين خلاخل سودا تتطلب إزالتها جهدا عضليا متواصلا مع كمية غير قليلة من الصابون و”أومو وجافيل” والماء، أما الأجزاء العلوية فهي على رؤوسنا نتوقى بها الحر، ونتستر بها عن المارة حتى لا يرونا في موقف الخزي، نستمع إلى السير الذاتية لأنواع من السيارات وبطولات الربح بالتدليس يحكيها بعض من بسطاء السائقين، وتقاسمنا معا لفحات الشمس وأتربة عواصف الشوارع، نقف على رجل لنريح أخرى، نراقب الميكانيكي منشغلا عنا و ننتظر أن يتفـضل علينا بوعد مكذوب لكنه يبقى في صمته يوزع بالعدل بيننا حصصا من عدم الاكتراث ونظرات الاحتقار كأننا طابور مساكين أمام ثري مغرور.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى