آراء وتحليلاتالأخبار

مراسلات بين المؤرخين: الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين والمختار بن حامدٌ / سيدي أحمد ولد الأمير

 

هذه مراسلات مؤرخين جليلين وشيخين فاضلين وهما الشيخ محمد الإمام ولد الشيخ ما العينين (توفي في غشت سنة 1970) والمختار بن حامدٌ (توفي في يونيو 1991) رحمه الله الجميع، وقد زودتني بها مشكورة أختي الفاضلة الباحثة الأديبة الدكتورة العالية الشيخ ماء العينين حفيدة الشيخ محمد الإمام.

تعود هذه المراسلات التاريخية والأدبية المفيدة إلى منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر؛ ذلك أن أول رسالة كانت بتاريخ 15 شعبان 1372هـ (17 يوليو 1953م)، وآخر رسالة من المراسلات كانت بتاريخ 15 ذي القعدة 1375هـ أي 24 يونيو 1956م. فقد جرت المراسلات إذن في بحر ثلاث سنوات، وهو أمر قد يكون مستطيلا وممتدا بمقاييسنا السريعة اليوم، لكنه في ذلك الوقت قد يعتبر أمرا طبيعيا نظرا لارتباك العناوين ولظروف التراسل التقليدية أحيانا والشاقة أحيانا أخرى.

ومن أبرز ما في مراسلات الشيخين الفاضلين والمؤرخين الجليلين الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين والمختار بن حامدٌ أن كليهما قدم لآخر في رسالته منهجه في كتابة التاريخ وطريقته في جمع المعلومات، وبعض التفاصيل المفيدة.

ذكر الشيخ محمد الإمام تفاصيل ومضامين كتابه “الجأش الربيط فى النضال عن مغربية شنجيط وعربية المغاربة من مركب وبسيط”، قائلا: “وقد ذكرنا فيه تحديد القطر وعوائد أهله وزيهم وأخلاقهم ومذاهبهم في العلوم وكيفية تعليمهم، وما يميلون إليه من العلوم. ثم ذكرنا الأقسام الثلاثة: الزوايا والعرب واللحمة، ومتى انقسموا إلى هذه الأقسام، وما السبب في ذلك. وذكرت أهل البلاد الأصليين ثم دخول من دخل عليهم من العرب فصاروا أرومة واحدة، فامتزج الدم واشتبكت العروق ووشجت الأرحام ومشجت النطف واتحدوا في الزي والعوائد واللغة، فصار الجميع أمة عربية لا يميز بينها. وقصارى أمرهم أن يكونوا بين عرب أقحاح وعرب مستعربة”.

كما ذكر المختار بن حامد هو منهجه في موسوعته قائلا: “موضوع الكتاب الذي أنا بصدده فهو ما كتبت في الورقة الأخرى، ويهمني في ترجمة الرجل تاريخ وفاته، وسنوه، وأسماء مؤلفاته، ومثال واحد من الصفة التي امتاز بها: ككرامة من كراماته، أو بيتين من شعره، أو أسطرا من إنشائه”.

وقد أثار كل منهما نقاطا مهمة في مراسلتهما نترك للقارئ الوقوف عليها استكشافا واستطلاعا، ولا ندخل بينه وبين النصوص تطفلا وتعسفا.

أولا: رسالة الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين:

الحمد وحده صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم

نبراسَ الأذكياء، نادرةَ الألباء، إكليلَ الأفاضل، ثجاجَ الفواضل، كثيرَ الفضائل: السيدَ المختار بن حامد، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ما دامت تجري على الكون من ربنا رحماتُه.

هذا وإنه ما زالت تَنْمِي إليَّ أحاسنُ شمائلكم وتتوارد على مسامعي محاسنُ خصائلكم فينمو الوَجد ويزداد الشوق وتنبعث الدواعي الوديةُ، حتى ألجأني دواعي المحبة القلبية والجاذبة الروحية، أن شفعت الكتاب الأول بهذا الثاني، ولم أنتظر جوابه لألِجَ من مضمونه بابه، فأضع الهِناء مواضع النُّقب.

إنّ القلوبَ لأجنادٌ مجنّدةٌ ÷ للهِ في الأرض بالأهواء تعترفُ

فَما تَعارَفَ مِنها فَهوَ مُؤتَلِفٌ ÷ وَما تَناكَرَ مِنها فَهوَ مُختَلِفُ

هذا ولتعلم أيها الصديق والجهبذ الأفيق بل الأخ الشقيق أنا جعلناك نصب سواد العين، بل في سويداء القلب وسره المصون.

فما ضرَّنا نأْيُ الجسوم وقد دنتْ ÷ قلوبٌ طويْناها على خالص الودّ

هذا ولا يخفاكم أن خدمة العلم أشرف ما يتنافس فيه المتنافسون، ويتضلع من رحيقه المحققون. ونقول لمن جعله الحظ مستخدَمًا فيه إنه بمثابة أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها، أو بمثابة صاحب الأضحية يستعجل نفعها ويدخر أجرها. فالعلم أضوأ ما يستصبح بأنواره، وأفضل ما يتسابق لاجتناء ثماره، وأهدى ما يعشو أحد إلى ضوء ناره. فنسأل الله تعالى أن يعينك على ذلك، ويوفق لسانك وقلبك ويدك فيما هنالك، فلا تزل حفظك الله تعالى مثابرا على ذلك. فقد تعلم أن العلم نَضَبَ ماؤه وأجِنَ معينه وتقلص ظله، فصار نسيمه على الأكثر سَمُومًا، وصار غَضُّه عند العامة هشيما، وذلك مما جعل إحياءَه فرضَ عين على مَن جعل الله تعلى فيه قابليته، حتى يحرز بخدمته المقامَ الأعلى والقِدحَ المُعَلَّى.

هذا والمرجو من فضلكم أن لا تغْفُلوا عما كتبت لكم من شأن التاريخ الذي بلغني أنك مشتغل به، فابعث لي ما مضمونُه، بل فصِّلْ لي فهرسته، وما طُبِعَ فابعث لي به؛ لأني لم أجد من يتكلم على أهل قطرنا الشنجيطي كلاما يشفي الغليل، يكون ناشرا فضلهم على العموم وذابًّا عنهم على الإطلاق، مع توخي صحة الرواية المعضدة بالدراية، مع أنه لا يخفى علينا ضعف قطرنا مادة وقوة، ولكن “حسَنٌ في كل عين من تود”.

نعم، لا ننكر ما أعطاه الله تعالى من ثقوب الأذهان، وصحة الإدراك والتصور وألمعية القلوب، لكن نودُّ أن يكون ذلك مصروفا في خدمة البلاد وأهلها على العموم تاركين الأنانية، فيكونون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإن البناء إن لم يكن كذلك سرعان ما انهارت جوانبه ولا شيء أنفعُ ولا أرفعُ من الاشتغال بالعلوم والدؤوب عليها بإخلاص وصفاء.

ثم لتعلم أن موضوع كتابنا المسمى “الجأش الربيط فى النضال عن مغربية شنجيط وعربية المغاربة من مركب وبسيط”، هو هذا الاسم بعينه. وقد ذكرنا فيه تحديد القطر وعوائد أهله وزيهم وأخلاقهم ومذاهبهم في العلوم وكيفية تعليمهم، وما يميلون إليه من العلوم. ثم ذكرنا الأقسام الثلاثة: الزوايا والعرب واللحمة، ومتى انقسموا إلى هذه الأقسام، وما السبب في ذلك. وذكرت أهل البلاد الأصليين ثم دخول من دخل عليهم من العرب فصاروا أرومة واحدة، فامتزج الدم واشتبكت العروق ووشجت الأرحام ومشجت النطف واتحدوا في الزي والعوائد واللغة، فصار الجميع أمة عربية لا يميز بينها. وقصارى أمرهم أن يكونوا بين عرب أقحاح وعرب مستعربة.

وقد يعلم من له أدنى إلمام بالعلم أن الاستعراب لا يضر صاحبه ولا يُقصِّر به عن صفوف العرب. فمن المعلوم أن العرب المستعربة هم أبناء إسماعيل عليه السلام، ويكفي ذلك حجة على ما قلنا، وبه يعلم ألا مغمز في عربية الشناجطة اليوم جميعا، ولا مطعن فيهم بعدما اتصفوا بالصفات التي صار بها العرب أنفسهم عربا. ولولا اعتبار معشر المسلمين ذلك لبقي كل على دعواه. فلا يخفاكم أصول كثير من الأقطار قبل الإسلام كمصر وسوريا والعراق وغير وغير. وقد يعمنا من ذلك ما يعمهم إلخ إلخ..

15 شعبان 1372هـ (17 يوليو 1953م)

محمد الإمام بن شيخه الشيخ ماء العينين وفقه الله تعالى

ثانيا: رد المختار بن حامدٌ على الشيخ محمد الإمام:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله.

وبعد فإلى حضرة السيد الكريم بن الكريم إلى هَلُمَّ رفعا، الشيخ العلامة المربي البركة المحترم ابن الشيخ الكامل البركة ابن الأشياخ السادات الأولياء العارفين المحترمين: الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ÷

أولَئِكَ قَومٌ زَيَّنَ اللَهُ فَخرَهُم ÷ فَما فَوقَهُم فَخرٌ وَإِن عَظُمَ الفَخرُ

لها منتهى ودِّي وجُلُّ مودتي ÷ وصفو الهوى مني وللناس سائره

فأما موضوع الكتاب الذي أنا بصدده فهو ما كتبت في الورقة الأخرى، ويهمني في ترجمة الرجل تاريخ وفاته، وسنوه، وأسماء مؤلفاته، ومثال واحد من الصفة التي امتاز بها: ككرامة من كراماته، أو بيتين من شعره، أو أسطرا من إنشائه.

فلهذا ألتمس من أحد خدامكم أن يكتب لي ورقات تتضمن أمثلة من شعر أو إنشاء آل بيتكم من غير أن يُحذَف واحدٌ، ولو لم تعترفوا بأنه مجيد، فإني أرى أن في ذكر المجيد مع حذف القاصر هضما لهذا الأخير، وعدمَ تشجيع له على النبوغ.

وقد حصلت على آثار آل بيتكم الشريف، لكني أحب أن آخذ لكلٍّ أحسنَ ما عنده؛ لأن قلة ما أكتب للشاعر تقتضي أن يكون أحسنَ ما عنده؛ ليلا تجتمع القلة وعدم الاختيار، فيكون في ذلك هضم له.

وتمنيت لو كان الاختيار في ناحيتكم الشريفة من أحد أدبائكم كالسيد ماء العينين بن العتيق مثلا، فهو أعرف بما يعتبره من شعره “نِمْرَةُ” الواحد وهكذا.

وقد أخذت الكتاب من مصادر شتى: منها مخطوطات وأسمعة من المشايخ. وقد وجدت في أنساب بني دليم بعض اختلاف في النسخ، وعولت على ما ظننته أصحَّ، وأرسلت إليكم بعض مسودة بني حسان لتعلموا منها البرنامج والنظام، ولتفيدوني بزيادة تحرير فيما يخص بني دليم؛ إذ هم من أخص تلامذتكم. وعسى أن تعلموا عنهم ما لا يعلم غيركم. ولو كنت أرجو أن يسمح الوقت بزيارة تلك الأرض لكانت النقرة التي أرقص عليها فأتبرك، وأستفيد ما أعمِّرُ به فراغا من كتابي هو أهم فراغاته، أعني تراجم آل بيتكم فردا فردا، ثم أنساب ومشاهير أهل تلك الأرض.

هذا وإني بعد التفتيش منذ عشرين سنة حصلت على تراجم مهمة لما نسميه موريتان دون ما نسميه ريو دودو، فلو أذنتم لبعض التلامذة، وسأكون شاكرا لكم المرة بعد الأخرى، بالكتابة عن فلان وكل مراحل ترجمته وأثره في الدين أو الأدب أو الرجولية أو الشجاعة … الزوايا والعرب والموالي والحدادين، فإن في كل جنس فردا أو أفرادا يستحقون الذكر….

وعليكم ألف تحية وسلام

ثالثا: رد الشيخ محمد الإمام:

الحمد لله صلى الله على سيدنا محمد وآله

الأحب الأعز محمود الشمائل كثير الفضائل نخبة الأفاضل السيد المختار بن حامد:

سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

أما بعد السؤال عن أحوالكم جعلها الله طبق آمالكم أننا إلى خبركم بالأشواق وقد تعطل عنا، وعسى المانع خيرا. وقد وصلنا نظمكم الرائق في الكلام على القبض فلله دركم، فلم تتركوا لقائل مقالا.

وَضَحَ الْحَقُّ يَا لَبِيبُ فَسَلِّمْ.. إلخ.

هذا وقد كتبت إليكم براوات ظنا أنكم في مدينة اندر، ولعلها لم تصلكم.

نعم، إني كنت راكبا هذه الأيام في الطائرة فتذكرت أبياتا قلتها قبل في شأنها فزدتها أبياتا أخرى في صفة الحال كما ترى في الأسفل، نسأله تعالى التوفيق والمغفرة.

هذا وإن تجدد عندكم طبع بعض مؤلفاتكم أو نتائج فكركم ابعثوه لنا جزاكم الله خيرا بالتمام وعلى المحبة والسلام.

15 ذي القعدة 1375هـ (24 يونيو 1956م)

محمد الإمام بن شيخه الشيخ ماء العينين وفقه الله تعالى.

ألا لطفا متى امْتُطِىَ الهواء ÷ على جَوْفَاءَ جُؤْجُؤُها هَواء

لها في الصدر إن حَمِيَتْ أزيزٌ ÷ وغَيْطَلَةٌ يضيق بها الفضاء

فتعْجَل عن رحَى العجلات وثبا ÷ وشيكا فالأمام بها وراء

فتصْعَد في الهواء صعودَ باز ÷ وتسبَح في الفضاء كما تشاء

فتحسِب تحتها مهما تسامت ÷ سماءً فوقها سَمَكَت سماءُ

لها ريحانُ عاصفةٍ وأخرى ÷ بمتن الجو طيبة رخاء

فتجري أولا بمحركات ÷ تساعدها القوى والكهرباء

فآونة تسُف سَفِيفَ صَادٍ ÷ وآونة يكون لها اعتلاء

فلا يَدري الذي قد كان فيها ÷ أصبحٌ كان فيه أو مساءُ

وتعمَد بعد ما بلغت مداها ÷ إلى حيث المطار له استواء

فتهبِط صوبه تهوي رويدا ÷ على التدريج ليس لها التواء

فتنزل مثلما ابتدأت برفق ÷ فطاب بها النزول والارتقاء

فتقبَل نحو مركزها تَهَادَى ÷ يصاحبها اختيال وازدهاء

فمن لم يدرها من قبل هذا ÷ يقول توهما ماذا الهداء

فتجثِم حين تأتيه جثوما ÷ ويَنْفَضُّ الجميع لحيث شاؤوا

ألا أطْيِبْ به سَفَرا لذيذا ÷ فلا وعثاءُ فيه ولا عناءُ

فسبحان الذي فطر البرايا ÷ وسهَّل للصعاب كما يشاء

فنسألك السلامة حيث كنا ÷ ولطفا لا نُضَرُّ ولا نُسَاءُ

في الختام…

لمراسلات الشيخين الجليلين محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين والمختار بن حامدٌ الكثير من الفوائد، فيجد الباحث في التاريخ معلومات ثمينة، وتوضيحات جزيلة وإشارات دقيقة. كما يجد فيها دارس الأدب جانبا من الكتابة النثرية عند الشناقطة في منتصف القرن العشرين؛ حيث أبان الشيخان محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين والمختار بن حامدٌ عن مستوى راق من الكتابة النثرية، وتمكنٍ مكينٍ من ناصية اللغة العربية وأساليبها واستحضارٍ الأشعار وتضمينها


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى