أعلامالأخبار

العالم اللغوي المختار بن بون الجكني

 

أعلام الصحراء(40):
العلامة المختار بن بونَ الجكني

لعل “المختار ول بونَ” من أشهر مشاهير الصحراويين على الإطلاق، شهرة ربما يكون مردها الأساس إلى الإهتمام الفائق الذي كان الصحراويون يولونه للنحو واعتبارهم النبوغ فيه ضربا متقدما من الفتوة وصفاء القريحه، فكان ظهور ابن بونَ في مجاله وإنجازه لطرته الشهيرة على خلاصة ابن مالك طريقه المختصرة إلى الشهره..
غير أن النحو الذي اشتهر به ول بونَ وارتبط به اسمه أيما ارتباط لم يكن في واقع الأمر كل علمه، بل لم يمثل منه سوى رأس جبل الجليد في البحر، فقد كان الرجل منطقيا أصوليا لغويا شاعرا، ونحاول عبر هذه الحلقة الخاتمة للأربعين حلقة الأولى من سلسلة أعلام الصحراء التطرق لأخبار الرجل وأبعاد شخصيته..

هو المُختار بن محمد سعيد(بونَ) بن المستحي من الله بن اعلِ بن زلماط الجد الجامع لبطن الزلامطه من تجكانت، وأمه مريم بنت بخيري الموسانية الجكنية، ينتمي لأسرة من تجكانت ممن توجهوا منهم إلى الڭبله عقب اندثار حاضرة تنيڭي، ولد في بلدة اكفلّيت جنوبَ بوتلميت في حدود سنة 1670م، واكفلّيت عقلة ضمن “اعڭل تجكانت” هي المذكورة في قول محمد الامين ول الطلبه العلوي:
عاڭب تسدارِ بالسنين … وبين السنين وتوجونين
هذانَ حامد للمتين … صدر (أكفليت) اعلَ ڭدُّ
عت انعدُّ واحد واثنين … وصدر أكفليت الّ عَدُّ
إعود ألا ينظر بالعين … تنمدُّ فم وتنمدُّ
حد انظرهَ بالعين العين … ولخواويات ألا عندُ

بدأ ول بونَ دراسته على يد المختار بن حبيب الجكني، ثم درس على الفغ انجبنان الألفغ حيبلي، كما تلقى عن محمد بن حبيب الجكني ومحمد العاقل الديماني وابنته غديجه “إمامة” أهل المنطق في الصحراء، وزعم صاحب الوسيط أنه لم يتعلم حتى كبر وأنه استعصى عليه التعلم ثم فُتح عليه، ويستبعد أن يكون ذلك صحيحا، ولعله من مفتريات الوسيط الكثيرة، فلماذا يستعصي التعلم على فتى من تجكانت سيصبح فيما بعد أحد أعظم علماء زمنه؟، ولماذا لم يدرس حتى كبِر مع أن تجكانت اشتهروا بالتعلم حتى قيل: “العلم جكني”؟، الراجح عندي أن مجتمع الصحراء كان عامته من التخلف الفكري والفراغ بحيث ينسجون الأساطير حول كل ظاهرة غريبة لتفسيرها، وحول كل نابغة لتبرير نبوغه، كذا فعلوا مع سدوم ول انجرتو فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في المنام فتفل في فيه فاستيقظ نابغا، وكذا فعلوا مع المختار مما لا أساس له..

نبغ ابن بونَ في شتى العلوم المتداولة في عصره خصوصا اللغة والأصول والمنطق والأدب، نبغ فيها بجده وتوقد فهمه، وشاع ذكره وضُربت إليه أكباد الإبل من مختلف نواحي الصحراء، لكنه كان دائم السفر يُعلم ويتعلم ويُناظر ولا يحب الإستقرار، وهو ما شق على تلاميذه فعبر أحدهم عنه بقوله:
لك الله من شيخ إذا ما تبوأت … تلاميذه مرعى لنصب المدارس
تيمم ميمون الخصاصة فاترا … على ظهر مفتول الذراعين عانس
يفزع نون البحر طورا وتارة … يُهدم جحرَ الضب في رأس مادس

على أن هذا الترحال لم يمنع ابن بونَ من تكوين أجيال عظيمة وتأليف كتب قيمة، وهو القائل كما في نونيته الآتية:
ونحن ركب من الأشراف منتظم … أجلُّ ذا الخلق قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة … بها نُبيّن دين الله تبيانا

قال عنه المختار بن حامدٌ في ترجمته له:” هو القطب الشهير، والسراج المنير، ذو العلوم الغزيرة، والمآثر الكثيرة، شيخ المنقول، وإمام المعقول، الذي بلغ مرتبة الاجتهاد، وتغنى به الحاضر والبادْ، حائز السبق في كل الميادين، بقواطع الحجج وواضح البراهين، عاش مائة وأربعين سنة فما سقطت له سن ولا نقص بصره، صاحبه العز والنصر منذ شبابه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، كان رحمه الله أول من وسع قراءة النحو في موريتانيا فشرح ألفية ابن مالك، وأضاف معها ألفيته المعروفة بالاحمرار، وشرحها أيضا فانسابت أرواح الطلبة على قراءة هذا السفر الصغير الذي كاد أن يحتوي على جميع علوم النحو، وانتفعوا به انتفاعا كثيرا”اهـ

وسماه الشيخ محمد المامي “آية الغرب”، حيث يقول في دلفينيته:
وشارطوا آية الغرب ابن بونَ فلم … ينكر عليهم ولا العُمشُ الجواكين

وانتفع عامة أهل الصحراء بابن بونَ، فلا تجد ناحية إلا ورسخ فيها طود تخرج على يده، ومن أشهر من أخذوا عنه:
– العلامة سيد عبد الله بن الفاظل الباركي المعروف بفحل تيرس.
– العلامة المجتهد سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي.
– العلامة الشاعر حرمة بن عبد الجليل العلوي.
– العلامة إدييجَ بن عبد الله الكمليلي.
– العالم الشاعر الفارس عبد الله بن سيد محمود الحاجي.
– العلامة عبد الله بن الحاج احماه الله القلاوي.
– العلامة عبد الرحمن بن المختار المسومي المعروف بـ”فحفو”.
– العلامة سيد محمد بن سيد عبد الله العلوي.
– العلامة لمجيدري بن حبلَّ اليعقوبي.
– العلامة مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي.
– المقرئ الفقيه بلعمش بن محمذ مبارك الأبييري(وهو ابنُ أخته).
– العالم الأديب المامون بن محمذ الصوفي اليعقوبي.
– السيري الأديب غالي بن المختار فال البساتي.
– العالم المختار بن سيد احمد اللمتوني.
– الشاعر الإمام بن ماناه الجكني.
– الأديب الشاعر سيد عبد الله بن أحمد دامُ الحسني.

وقد ألف ابن بونَ التآليف النافعة الجزلة التي تلقتها الناس بالقبول في الصحراء وخارجها، ومن أشهر تلك التآليف:
– وسيلة السعاده في معنى كلمة الشهاده، وهو نظم في التوحيد وعلم الكلام، مقدمته:
أول ما أقول بسم الله … ثم -اقتداء بكتاب الله-
الحمد لله القديم الأسما … الواسع الفضل الكريم الأسمى
الحي ذي الجلال والإكرام … مسدي إلينا رسلِه الكرام
ميسر العبد لما قد خلقا … معلق الكسب بما تعلقا
فصير الأبرار للنعيم … وصير الفجار للجحيم
سبحانه جل عن الأنداد … في الملك والأعوان والأضداد
ثم صلاة ربنا السلامِ … مقرونة بأفضل السلام
على الذي هدى إلى الإيمان … بواضح الدليل والبرهان
على النبي العلم العلام … وآله وصحبه الأعلام
ما غُلب الباطل بالحق وما … هدى إلى الحق الإله العلما
هذا وإن العلم نعم المكتسب … وخير ما إليه ذو الفضل انتسب
وأفضل العلوم بالإطلاق … علم به معرفة الخلاق
وهو الذي يدعون بالتوحيد … ولا يرون عنه من محيد
كما يسمى عند أهل الفهم … علم العقائد بغير وهم
وعلم أصل الدين والكلام … والدين الإيمان مع الإسلام
ومع الإحسان وأما الثاني … فقصره عليه في القرآن
لأنه اليهود والنصارى … دينهما إلى الضلال صارا
فهو إذا قصر إضافي بحسب … دينهما الذي الحنيفيُّ سلب

– الجامع بين التسهيل والخلاصه المانع من الحشو والخصاصه المعروف في المحاظر الصحراوية بـ”احمرار ول بونَ” وهي طُرة وضعها على خلاصة ابن مالك.
– مَبلغ المأمول في قواعد الأصول، وهو نظم في القواعد الأصولية.
– تحفة المُحقق في حل مشكلات المنطق وهو نظم جزل في المنطق مقدمته:
قال الفقير الجكني النسب … ابن السعيد المالكي المذهب
الحمد لله الذي لا يدرك … وغيره جل به لا يشرك
من عجزت عن حده العقول … ليس إلى تصويره سبيل
ولا له جنس ولا نوع ولا … كم ولا كيف تعالى وعلا
وجل في أفعاله عن الغرض … سبحانه والاتصاف بالعرض
له قضايا حكمها مبين … والقلم الجاري بما يكون
وأرسل النبيّ بالرساله … بأوضح البرهان والرساله
وجاء عن تصديقه بحجج … أشكالها بها سواه لم يج
صلى عليه أفضل الصلاة … وآله وصحبه الثقاة
ما استنتج المطلوب من دلائل … صحيحة فهمُ اللبيب العاقل
وبعد فالمنطق خير ما اعتنى … ذو همة به وخير ما اقتنى
لكونه معيار كل علم … وجاليا لظلمات الوهم
وبلهَ ما قال سوى محقق … أن البلا موّكل بالمنطق
وإن تقل حرمه النواوي … وابن الصلاح والسيوطي الراوي
وخص في المقالة الصريحه … جوازه بكامل القريحه
قلت نرى الأقوال ذي المخالفه … محلها ما صنف الفلاسفه
أما الذي خلصه من أسلما … لابد أن يعلم عند العلما
لأنه المصحح العقائدا … ويُدرك الذهن به الشواردا
أفضل ما صُنف في ذا الفن … ما الآن أصدر الإله مني!!
بعونه وجوده ونعمته … وفضله وطَوله ورحمته
لأنه أحاط بالمختصره … وزاد بالعبارة المختصره
سميته بتحفة المحقق … في حل مشكلات علم المنطق
وأسأل الرحمن أن يكونا … على طريق المصطفى معينا
وأن يكون ناجحا ومرتضى … وأن يثيبني عليه بالرضا
وأن يعيذنا بجاه أحمدا … من شر حاسد إذا ما حسدا

– نظم الجُمل، تطرق فيه لإعراب الجُمل.
– تبصرة الأذهان في نكت علم البيان ومطلعه:
يقول راجي فضل ربه الغني … ابن محمد السعيد الجكني
الحمد لله الذي الإنسانا … من فضله علمه البيانا
من لا له في الوصف بالمعاني … ولا بديع صنعه من ثاني
دلت على إفضاله وعدله … أحوال متعلقات فعله
ثم على النبي أفضل الأنام … والآل والصحب الصلاة والسلام
ما أعجزت بلاغة القرآن … مَن طبعه ذرابة اللسان
هذا وإن العلم أفضل العمل … وخير ما عليه ذو الفضل اشتمل
لكن إذا أردت في أجودِه … أن تشغل الفكر وفي أفيده
فهو إذا أخذت في ذاك الصنيع … علم المعاني والبيان والبديع
إذ بالمراعاة لها الإعجاز … لمن يرى يصحبه الإبراز
وتُظهر الأوجه والأسرارا … من البلاغة بها إظهارا
وتكشف الغطا عن الدقائق … وتظفر الأفكار بالحقائق
والدين شيخنا السيوطي نقلا … عن سعده بدونها لن يكملا
وجدتها قد صنفت فيها كتب … بارعة لكن قليلا ما يهب
صبا نسيمها إلى الجوانح … أو تُجتلى بأعين القرائح
فجئت فيها بكتاب جامع … لما يفيد من سواه مانع
يبوح بالمكنون في الضمائر … لمن تُصافيه من الخواطر
أرجوزة محكمة الربوط … فائقة ألفية السيوطي
سميتها تبصرة الأذهان … في نكت البيان والمعاني
وأسأل الله بها أن يُنتفع … وتنتقى وتُرتضى وتُتبع
وأن يُعيذني من الحُساد … بجاه أحمد الشفيع الهادي
صلى عليه الله والأبرارِ … ما كُوّر الليل على النهار

ونظَم التلخيص في البيان.

وكان ابن بونَ على ذلك شاعرا قحا يعرف من أين تؤكل كتف الشعر، من شعره الفخري:
حدت حُداة بني يحيى بن عثمانا … إبليْ بزيزَ فأنرمرا فوازانا
وعن قريب ستحدو غيرَ وانية … حُداتنا بين كروم ودامانا
ونحن ركب من الأشراف منتظم … أجلّ ذا الخلق قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة … بها نبيّن دين الله تبيانا
والمجد في أي أرض تبلغون ثوى … مستوطنا حيثما حلوا بجاكانا
إني ابنهم وهمُ أهلي ولستَ ترى … من البنين ولا الأهلين أكفانا
أقلامنا قد أبت ذاكم وأسيُفنا … من ذا يدافع ما الرحمن أولانا
ماذا عسى أن يضيرونا ألوا حسد … إن يكثروا في ضمير السر أضغانا
ومن تكن همة الأقدار نصرته … لم تقدر الناس أن توهي له شانا
أما الرجال فزنها بالخطوب ولا … تجعل لها العين قبل الخطب ميزانا
ولا تنهنهني عن حاجة جزع … ولا ألين وإن ذو لوثة لانا
ومن تأمل أدراه تأمله … أني على الخطب جَلد جلّ أو هانا

وله قصيدته التوسلية الشهيرة:
لك الحمد يا الله يا الواحد البر … فصل على من جاءه الفتح والنصر
إلهي كشفتَ الضر عن عبدك الذي … دعاك -ونعم العبد- إذ مسه الضر
دعوتك فاكشف عنيَ الضر والبلا … ولستُ بنعم العبد يا من له الأمر
لديك سواء في إجابتك الذي … دعا من به خسر ومن ما به خسر
فأيوبُ أوابٌ دعاك لضُره … وإني مُسيء قد دعوتك مضطر
مناجٍ، بقلبٍ كالحجارة قسوة … أو أصلب منها، من له الملك والقهر
إلهي إلهي ما أشد إساءتي … على أن ما أحسنتَ بي ما له حصرُ
إلهيَ لو كشَّفتَ سترك أوشكت … إذا شيعتي أن يفتكوا بي وأن يزروا

وله في تثليث كلمة حجة:
وشادِن رمى الحشى طرفُه … بفاتر اَضعف من حُجتي
فبتُّ لا هجعة من همه … في ليلة أطول من حِجة
تعتادني من شوقه زفرة … أحط للآثام من حَجة

ومن ظريف أدبه يداعب تلميذه عبد الرحمن بن المختار المسومي المعروف بـ”فحفو”:
حلفتُ برب الراقصات إلى مِنى … لقد فاق هذا العصرَ كلهمُ فحفو
ففاقهمُ علما ونحوا دراية … وزاد على ذا أنه لم يكن “يحفو”!
و”لحفَ” ضد الظرافة والتندر.

وكانت وفاته رحمه الله سنة 1805م أي أنه عاش 135سنة:
وقطرنا له معمرونا … منهم فقيد النحو نجل بونَا
مؤلف الجامع والقواعد … ومبلغ المأمول والعقائد
ودرر الأصول والمحقق … في حل مشكلات علم المنطق
وتحفة الصغار والمقدمه … مما من النحو لنا قد قدمه
وموته كان بعام (شكر) … إذ غاب نجم من نجوم الفكر
عُمّر تسعة وأربعينا … ومائة ورزق البنينا

وتوفي ببعض نواحي المجريه في تگانت..

 

من صفحة رائد الثقافة الصحراوية على الفيس بوك


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى